الحمد لله خلق الإنسان وصوّره وحسّن أخلاقه وكرّمه، وقرّبه منه وعزّزه.
والصلاة والسلام على النبي العدنان،
فهْوَ الذي تَمَّ معناهُ وصُورَتُه
ثمَّ اصطفاهُ حبيبًا بارئ النَّسمِ
مُنَّزَّهٌ عن شريكٍ في محاسنهِ
فَجَوْهَرُ الحُسْنِ فيهِ غيرُ مُنْقَسِمَ.
في صورة روحيةٍ عابقة بالقُرب والغفران، وبلسان المُبَلْسِم للآلام والجِراح، ينزل جبريل عليه السلام مطمئناً مبشٍراً حاملاً بين جناحَيْه أمراً إلهياً وأماناً نفسياً لا تقدّمه اليوم أفضل مستشفيات الأرض ولا تبلغه أرفعُ مكانات النفوس أنْ لا تيأس يا عبد الله من روح الله فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
الله فضّل الإنسان على كثير ممّن خلق، وكرّمه وهداه، ثم أعاد هذا العطاء وجدّده وزاده للمسلمين لأنهم وبكل شموخ وفخر هم أتباع الذي قال عنه مالك السموات والأرض: محمد رسول الله. وكفى بهذا التكريم من نعمة.
لقد تقرّب الله من عباده ليتقرّبوا منه، فإذا سألوا عنه وجدوه منهم قريباً يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، يعلم ما في صدورهم من سرٍّ وعلانية، هو معهم أينما كانوا. جاء في سياق الحديث عن عيسى -عليه السلام- أن الله -تعالى- يسأله يوم القيامة يوم يجمع الله الخلائق والأنبياء والرسل ويوجه له سؤالاً عمّا إذا كان قد ادّعى الإلهية.
قال تعالى: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (المائدة:116).
قال المفسرون: بدأ عيسى كلامه بالتسبيح قبل الإجابة؛ تنزيهًا لله -تعالى- عما أضيف إليه، وخضوعًا لعظمته وعزته.
وقوله -تعالى- حكاية عن عيسى -عليه السلام-: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116]. قال القرطبي: تعلم سري وما انطوى عليه ضميري الذي خلقته، ولا أعلم شيئًا مما استأثرت به في غيبك وعلمك إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ما كان وما يكون وما لم يكن وما هو كائن.
فإذا كان الله يعلم ما في قلب ونفس نبيّه، ألا يعلم بما في نفس عباده؟!
إنّ الأمر أبعد من ذلك بكثير، الله لا يعلم ما في نفس المرء وما تسوّل له به فحسب، بل إنه أعلم بما في نفس المرء أكثر من المرء ذاته، قال تعالى: ربكم أعلم بما في نفوسكم. أي أعلم بنفس المرء أكثر من المرء نفسه.
وإذا كان الله -وهو ربّ العالمين- الرحيم بعباده أكثر من رحمة الأم بابنها والرؤوف بهم أشدّ من رأفة الأب بأبنائه قد تقرّب هذا القرب محبةً وودّاً، كان لِزاماً على عباده أن يكونوا قريبين منه أكثر من قربهم بأهلهم وذويهم فلا تتعلّق قلوبهم بغير الله.
يروي أحدهم أنّه عصى الله حتى ظنّ أنّه لن يغفر له، ثمّ بعد أعوامٍ عديدة منّ الله عليه بالتوبة والعودة إليه.
كان يقوم الليل فيصلي ما كتب الله له أن يصلّيه ثم يجلس ويدعو الله مستفتحاً بالصلاة على النبي، فإذا ما جاءت لحظة الحقيقة ولجّ بالدعاء راح يسأل الله بذنوبه العظيمة المغفورة وقلبه الضال العائد وتوبته النصوحة الخالصة.
وفي إحدى الليالي المُقمِرة حيث يخلو كلُّ حبيبٍ بحبيبه ويبوح كلُّ خليل لخليله، قام فصلّى وسجد ودعا وسأل الله حاجته، يقول: كنت أدعو الله بلسانٍ أفصح من ألسنة الفصحاء وبلغة أبلغ من لغة البلغاء والدعوات تخرج من قلبي لا من فمي، وإذا ما حاولت تكرار الدعوات بالكلمات كان يخرج ما هو أفصح منها وأبلغ وأنا الجاهل الذي ما قرأ يوماً كتاباً ولا كتب كلمة. ثمّ صلّى الفجر ونام واستيقظ فإذا بحاجته قد قُضِيَت على هيئة لم يكن يتوقعها أبداً.
يقول: أدركت حينها أنّ الله لا يريد منك وسيلةً أو واسطة تصلك به، ولا يريد لساناً فصيحاً، كلّ ما يريده قلباً خالصاً له لم يتعلّق بغيره.
الله أقرب للعبد من حبل الوريد، وهل هناك من الخلق من هو أقرب للمرء من ربّه؟!
يقول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس ولكل مهموم أو مغموم، ولكل مكروب أو مظلوم، ولكل صاحب حاجة، “إذا سألت فاسأل الله”.
حين تشتد بك الخطوب، وتحيط بك الكروب، وتظلم أمام عينيك الدنيا .
حين يضيق بك الأمر، وتستحكم عليك حلقاته، ولا تجد لك مخرجًا.
حين يتبدل الحال، ويقل المال، وتكثر النفقات، وتتراكم على رأسك الطلبات، ولا تجد معك ما تؤدي به الحقوق والواجبات.
حين تتبدل الحقائق، وتنتكس الفِطَر، ويُهزأ بالقيم، وتُحارب الفضائل، وتمتدح الرذائل.
حين يتطاول على القرآن، ويستهزأ بالنبي العدنان، ولا تجد من يقف ليرد أو ينتصر لله ولدينه ولرسوله.
حين يعلو الباطل وينتشر وينتفش، وينخفض الحق ويستخزي وينكمش. حين يحدث ذلك فيضيق له صدرك، وتلتاع له نفسك..
اجأر إلى ربّك فإنه لا مخرج ولا ملجأ إلا به. إنّه ليحب العبد يصلي صلاته ويؤدي فروضه ويقيم واجباته حتى إذا ما نزلت به نازلة لم يلجأ إلى عبدٍ أو إنسان بل لجأ إلى معبود العباد وربّ الناس.
إذا الصَّدرُ ضَاقَ بآهَـاتِهِ .. .. وطَــالَ أسَى قلـبِكَ المُـكْتَرِبْ
فــنَاجِ الَّذي في منَاجاتِهِ .. .. خَلاصُكَ، وَاسْجُدْ لَه وَاقْتَرِب.
الله قريب منك فكن قريباً منه. رؤوف بك فكن رؤوفاً بنفسك لتكون على صراطه تَنَلْ رضاه.
بلال شرف الدين