Between Emergence and Decline

بين البزوغ والأفول


تبارك الذي بيده الملك وهو على كلّ شيء قدير. الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسنُ عملا.

والصلاة والسلام على سيّد النبيّين وخاتم المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

لقد خلق الله الإنسان فأحسن صوره وميّزه عن المخلوقات بعقلٍ سليم ورأيٍ سديد. وأخرجه إلى الدنيا لهدفٍ ومهمّةٍ وغاية تتجسّد بعبادة الله سبحانه (وما خلقتُ الإنسَ والجِّنّ إلّا ليعبدون)، فكلّ عملٍ أو سعيٍ أو جُهدٍ يصبو ويحطّ في غير هذا السبيل، إنما هو زاهقٌ.

والعملُ شمسُ الحياة وقمرها، ليلها ونهارها. منه المقمرُ والمظلم، المُشرِق والحالك، المشعُّ والبهيم. والإنسان إمّا عِطرٌ طيبٍ، أو صنان آسن. ينزل على أعناق العباد أو في نفوسهم. فالمرء في نهاية المطاف أثر.

 

والإنسان النبيه الذكي، يفطن للغاية من وجوده فيجدّ السَّيْر، ويُسرع الخُطى، ويُحسِن العمل، ويكثر الزاد. ويغتنم صحّته قبل سقمه، وفراغه قبل انشغاله، وغِناه قبل فقره، وشبابه قبل هرمه. فإذا جاء موعد الرحيل الأبدي عن أرضٍ لا تساوي عند الله جناح بعوضةٍ، وجد نفسه مُهيّئاً ومستعداً للقاءٍ لا يشبهُه أيّ لقاء، وحوارٌ هو بداية الحكاية.

يقول الله تعالى: “أَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ ۖ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا”.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ “. رواه ابن ماجه

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “ما مِنْ مُسلِمٍ يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة”.

ما يجمع هذه الدعوات والمُغرَيات أنه بالإضافة للثواب الأخرويّ الذي يثيبه الله عليه، يرتفع ذكر صاحب العمل حسناً وتزكيةً وأثراً طيّباً بين الناس. والناس شهداء على بعضهم، والرسول من فوقهم شهيد على الجميع.

إنّ ترك الأثر قبل الرحيل ليس بالمستحيل ولا باليسير، إنّه كلمة طيبة تُطلِقها أو قول خبيث تضبطه، خُلُقٌ حسنٌ تعتنقه أو عادةٌ سيّئةٌ تتركها، عملٌ صالحٌ تؤدّيه وتدعمه، تُربِّتُ على كتف، تمسح دمعة، ترسم بسمة… وما أكثر الأعمال والأمور التي تزرع في نفوس الآخرين أثراً! بل ما أحلاها من إرث وما أنفعها من أجر!

 

تمرّ السنوات خلف السنوات، ويقصر معها عُمر الإنسان، ويستنفد فيها قدراته بأعماله وأفعاله إلى أن تأفل شمسه وتغيب، فإما بدرٌ يضيء ظلمة ليله الحالك، أو سوادٌ فوق السواد ومن بعده وجوهٌ مُسودّةٌ.

والحسرة كلّ الحسرة على من ضيّع عمره في اللهو واللعب، وانتدبته المُلهِياتُ رسولاً لها إلى مواضِع كثيرة، واستغرق في الكذب والغيبة والنميمة ما يستغرقه السكران في شُربِه، وأخذته يد المعاصي وقيّدته. ثم التعاسة للغافلين التائهين في الظلمات، الساهين عمداً عن حدود الله وأوامره، فيقضي واحدهم عمره مُسرِفاً في الخطيئة والرذيلة وكأنّه ما خُلِقَ لغايةٍ وهدف، فهل يستوي الذين يعملون والذين لا يعملون؟!

 

كيف لي أن أنسى قصّة امرأة من الأنصار عند حادثة الإفك، دخلت على السيّدة عائشة رضي الله عنها ولم تتفوّه بأيّة كلمة. راحت تبكي مع بكاء أمّ المؤمنين، هذا كلّ ما فعلته. لا دافعت عنها كلاماً، ولا أودعتها ألفاظاً منمّقةً، لكنها بدموعها شدّت على قلبها وأثلجته رغم ما فيه من حُزْنٍ وغمٍّ وكآبة.

 مرّت الحادثة وظهر الحقّ، لكنّ أثر تلك الدموع المواسِيَة لم يزل في نفس زوجة رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، إذ تقول: لا أنساها لها.

قليلٌ من الدمع يخرق جدراناً، وينزل في أقصى الأعماق. بعض الدمعات قد تُخلِّدك في التاريخ وتُدخِلك الجنة.

 

“يا ابن آدم انما انت أيام فإذا ذهب يومك ذهب بعضك” كما ورد عن الإمام الحسن البصري -رحمه الله-. فليتغنم الواحد منّا يومه لساعة غيابه. فليزرع اليوم سمعةً طيّبةً، وصيتاً حسناً، والتقدير الرفيع، والمحاسنُ العظيمة.

وهنا ترِد أبيات أمير الشعراء “أحمد شوقي” حين قال:

دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ

إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَواني

فَاِرفَع لِنَفسِكَ بَعدَ مَوتِكَ ذِكرَها

فَالذِكرُ لِلإِنسانِ عُمرٌ ثاني.

 

بلال شرف الدين

About The Author

Imam Kifah Mustapha

Accessibility Toolbar