Don’t Give In To Grief

لا تستسلموا للحزن

 

     الحمد لله ربّ العالمين وأشهد أن لا إله إلاَّ اللهُ وحدهُ لا شريك له، وأشهد أنَّ سيدنا ونبينا محمّداً عبد اللهِ ورسولهُ، صلى الله عليه وعلى آلهِ وصحبهِ ومنْ والاهُ، وعلى كلِّ منِ اهتدى بهداهُ إلى يومِ الدّينِ.

      إنَّ حكمةَ اللهِ اقتضتْ ألاَّ تستقرَّ الحياةُ على حالٍ، فدوامُ الحالِ من المحالِ، فهي دائمةُ التّقلّبِ بأهلها، بين يسرٍ وعسرٍ، وصفاءٍ وكدرٍ، وسرورٍ وحزنٍ، والإنسانُ حين يفقدُ شيئاً من محبوباتهِ، أو يصابُ بمكروهٍ في حياتهِ، فإنّهُ غالباً ما تنتابهُ حالةٌ من الهمومِ، وتغشاهُ سحابةٌ من الغمومِ، فيعيشُ في دائرةٍ من الحزنِ، إلاَّ أنَّ عليه أن يؤمنَ بأنَّ هذا ابتلاءٌ من اللهِ، فالإنسانُ في هذه الدّنيا بين ابتلاءٍ بالشّرِّ وابتلاءٍ بالخيرِ، قال تعالى: ﴿ونبلوكمْ بالشّرِّ والخيرِ فتنةً وإلينا ترجعونَ﴾ [الأنبياء-35]. إنَّ الفرحَ والحزنَ عنصرانِ في الحياة متضادّانِ، خلقهما اللهُ في وجدانِ كلِّ إنسانٍ، يخمدُ أحدهما بطغيانِ الآخرِ عليه، فهو سبحانه وتعالى يهبُ النّفوسَ الفرحَ والتّرحَ، قال تعالى: ﴿وأنّهُ هوَ أضحكَ وأبكى﴾ [النجم/43]. وهذا الضّحكُ والبكاءُ إنّما هو انعكاسٌ لنظرة الإنسانِ وفهمهِ لسننِ الحياةِ وأحداثها، وطريقةِ تعاملهِ معها، فالإنسانُ في حياتهِ قدْ يسلكُ طريقاً يكونُ سبباً في تكديرِ صفوهِ وتنغيصِ حياتهِ، وتلاحقِ حزنهِ وبلائهِ، لذلكَ حثَّ الإسلامُ المرءَ على التّسلّحِ بالجَلَدِ والصّبرِ، إذا وقعَ عليهِ ما يكدّرُ الصّفوَ أو التبسَ عليهِ أمرٌ، فلاَ شيءَ أنفعُ وأجدى من الصّبرِ، فالصّبرُ على المصابِ خيرٌ منَ الاستسلامِ للحزنِ، يقول النّبيّ ﷺ: “منْ يتصبّرْ يصبّرهُ اللهُ، وما أعطي أحدٌ خيراً وأوسعَ منَ الصّبرِ” [رواه الإمام أحمد].

     قدْ يعتري الحياةَ بعضُ الأحزانِ، فهي سنّةٌ إلهيّةٌ في حياةِ بني الإنسانِ، ولقد ابتلى اللهُ عزَّ وجلَّ نبيّهُ ﷺ بابتلاءاتٍ كثيرةٍ من المحنِ والشّدائدِ التي أعقبها الحزنُ في حياتهِ ﷺ، فقدْ فقدَ في عامٍ واحدٍ شخصينِ عزيزينِ على قلبهِ، هما: أمُّ المؤمنينَ خديجةُ بنتُ خويلدٍ-رضيَ اللهُ عنها- وعمّهُ أبو طالبٍ، فسمّى النّبيُّ ﷺ ذلك العامَ بعامِ الحزنِ، وكانَ ﷺ يحزنُ بسبب إعراضِ قومهِ عن دعوتهِ واستهزائهمْ، ومقاطعتهمْ لهُ وتكذيبهمْ، كما دلَّ على ذلك قولُ الحقِّ تباركَ وتعالى: ﴿قدْ نعلمُ إنّهُ ليحزنكَ الّذي يقولونَ فإنّهمْ لا يكذّبونكَ ولكنَّ الظّالمينَ بآياتِ اللّهِ يجحدونَ﴾ [الأنعام/33]. وقولهُ تعالى لهُ: ﴿فلا يحزنكَ قولهمْ إنّا نعلمُ ما يسرّونَ وما يعلنونَ﴾ [يس/76]. وقولهُ تعالى عنهُ أيضاً: ﴿يا أيّها الرّسولُ لا يحزنكَ الّذينَ يسارعونَ في الكفرِ منَ الّذينَ قالوا آمنّا بأفواههمْ ولمْ تؤمنْ قلوبهمْ﴾ [آل عمران/176]. وقد واساهُ المولى عزَّ وجلَّ بما يثبّتُ قلبهُ، ويخفّفُ عنهُ لوعةَ الحزنِ، فقصَّ عليهِ قصصَ الأنبياءِ من قبلهِ، قال تعالى: ﴿وكلاً نقصُّ عليكَ منْ أنباءِ الرّسلِ ما نثبّتُ بهِ فؤادكَ وجاءكَ في هذهِ الحقُّ وموعظةٌ وذكرى للمؤمنينَ﴾ [هود/120]. ففي قصّةِ  يعقوبَ الذي فقدَ ابنهُ يوسفَ -عليهما السّلامُ- ثمَّ فجعَ بفقدِ ابنهِ الآخر، فزادَ همّهُ وحزنهُ، ﴿قالَ إنّما أشكو بثّي وحزني إلى اللّهِ وأعلمُ منَ اللّهِ ما لا تعلمونَ﴾ [يوسف/86]. وكذا يونسُ -عليهِ السّلامُ- وهو في بطنِ الحوتِ، بثَّ في دعائهِ لوعةَ الحزنِ والكربِ لربّهِ عزّوجلَّ، فقال: ﴿لا إلهَ إلاَّ أنتَ سبحانكَ إنّي كنتُ منَ الظّالمينَ﴾ [ الأنبياء 87]. إنَّ التّأمّلَ في قصصِ الأوّلينَ، وسيرِ المرسلينَ، يبعثُ في النّفسِ الثّباتَ، على مواطنِ الحزنِ والنّكباتِ، ويبثُّ في النّفسِ الأملَ بتجاوزِ الأحزانِ والكرباتِ، فالكربُ يعقبهُ الفرجُ، كما قال الرّسولُ ﷺ: “إنَّ الفرجَ معَ الكربِ، وإنَّ معَ العسرِ يسراً”.

     إنَّ حالةَ الحزنِ التي تصيبُ الإنسانَ، ليست دائماً مدعاةَ السّوءِ والضّرِّ، بل إنّها سببٌ لمراجعةِ النّفسِ، فاللهُ تعالى يقولُ: ﴿وبلوناهمْ بالحسناتِ والسّيّئاتِ لعلّهمْ يرجعونَ﴾ [الأعراف/168]. ويقولُ الحقُّ سبحانهُ: ﴿ما أصابكَ منْ حسنةٍ فمنَ اللّهِ وما أصابكَ منْ سيّئةٍ فمنْ نفسكَ﴾ [النساء/79]. بلْ إنَّ وقوعَ الشّيءِ المكروهِ قدْ يأتي بما هوَ خيرٌ، يقولُ اللهُ تعالى: ﴿وعسى أنْ تكرهوا شيئاً وهوَ خيرٌ لكمْ وعسى أنْ تحبّوا شيئاً وهوَ شرٌّ لكمْ واللّهُ يعلمُ وأنتمْ لا تعلمونَ﴾ [البقرة/216].

     إنَّ ترويضَ النّفسِ على الشّدائدِ قبل وقوعها، يخفّفُ عليه استقبالها ودفعها، أمّا النّحيبُ على ما مضى، والحزنُ على ما انقضى، فإنّهُ لاَ يعمرُ مستقبلاً، ولا يجدّدُ أملاً، بل إنّهُ يضعفُ الإنسانَ ويوهنُ قواهُ، ويجعلهُ غيرَ قادرٍ على مواجهةِ أعباءِ الحياةِ، يقولُ النّبيُّ ﷺ: “المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى اللهِ من المؤمنِ الضّعيفِ وفي كلٍّ خيرٌ، احرصْ على ما ينفعكَ واستعنْ باللهِ ولا تعجزْ، وإن أصابكَ شيءٌ فلا تقلْ: لو أنّي فعلتُ كذا لكانَ كذا وكذا، ولكنْ قلْ: قدّرَ اللهُ وما شاءَ فعلَ؛ فإنَّ “لو” تفتحُ عملَ الشّيطانِ”.[رواه مسلم]

     إنَّ السّخطَ والجزعَ والاستسلامَ للأحزانِ والهمومِ، أضرارٌ وآفاتٌ وسمومٌ، لا تغيّرُ من قضاءِ اللهِ شيئاً، قال تعالى: ﴿ما أصابَ منْ مصيبةٍ إلاَّ بإذنِ اللّهِ ومنْ يؤمنْ باللّهِ يهدِ قلبهُ واللّهُ بكلِّ شيءٍ عليمٌ﴾ [التغابن/11]. إنّهُ لا ينكر على المرءِ أن يحزنَ إذا وقعت أسبابُ الحزنِ، ولكنَّ المذمومَ هو الاستسلامُ للحزنِ والإذعانُ لهُ، مع أنَّ سنّةَ الحياةِ جرت أنَّ الحزنَ لا يلبثُ أن ينجليَ بعد وقتٍ، ليحلَّ محلّهُ الفرحُ وتعودَ مياهُ السّرورُ إلى مجاريها، فالواجبُ على الإنسانِ أن يجعلَ من مصيبتهِ قاعدةً للانطلاقِ، لبدءِ حياةٍ جديدةٍ ملؤها التّفاؤلُ وحسنُ الظّنِّ باللهِ عزّوجلَّ، قال تعالى: ﴿ومنْ يتوكّلْ على اللّهِ فهوَ حسبهُ إنَّ اللّهَ بالغُ أمرهِ قدْ جعلَ اللّهُ لكلِّ شيءٍ قدراً﴾ [الطلاق/3]. وقال تعالى: ﴿ومنْ يتّقِ اللّهَ يجعلْ لهُ منْ أمرهِ يسراً﴾ [الطلاق/4].

     على المسلمِ أن يعلمَ أنَّ ما يواجههُ في حياتهِ من ابتلاءاتٍ، إنّما هو تكفيرٌ للخطايا والسّيّئاتِ، يقول النّبيُّ ﷺ: “ما يصيبُ المسلمَ من نصبٍ ولا وصبٍ، ولا همٍّ ولا حزنٍ، ولا أذىً ولا غمٍّ، حتّى الشّوكةِ يشاكها إلا كفّرَ اللهُ بها من خطاياهُ” [رواه البخاري].

     إنَّ الابتلاءَ بالمحنِ والأحزانِ، يهذّبُ النّفسَ ويصلحُ عوجها، ويجعلها تتوبُ إلى بارئها، فربَّ أناسٍ كانوا في غايةِ الغفلةِ والإعراضِ، وحين ألمّتْ بهمُ المصائبُ والأحزانُ والأمراضُ، تنبّهوا ولجأوا إلى ربّهمْ، وأظهروا النّدمَ على ما فرّطوا في جنبِ خالقهمْ، وما من إنسانٍ في الدّنيا يخلو من النّعمِ، أو يسلمُ من النّقمِ، والنّفعُ والضّـرّ مقدّرانِ، بأمرِ الواحدِ الدّيّانِ، يقول النّبي: “اعلمْ أنَّ الأمّةَ لو اجتمعوا على أن ينفعوكَ بشيءٍ لن ينفعوكَ إلا بشيءٍ قد كتبهُ اللهُ لك، ولو اجتمعوا على أن يضرّوكَ بشيءٍ لن يضرّوكَ إلا بشيءٍ قد كتبهُ اللهُ عليكَ، رُفعتِ الأقلامُ وجفّتِ الصّحفُ” [رواه الترمذي].

     إنَّ أحسنَ النّاسِ صبراً ورضاً عن المصائبِ والأحزانِ أكثرهمْ إيماناً، وأحسنهمْ يقيناً، يقولﷺ: “إنَّ عظمَ الجزاءِ مع عظمِ البلاءِ، وإنَّ اللهَ تعالى إذا أحبَّ قوماً ابتلاهمْ، فمن رضيَ فلهُ الرّضا ومن سخطَ فلهُ السّخطُ” [رواه الترمذي]، فلاَ تأسَ أيّها المسلمُ على ما فاتكَ من الدّنيا، وأحسنِ التّوكّلَ على ربّكَ، وسلّمِ الأمرَ إليهِ؛ فسيكفيكَ همَّ الدّنيا والآخرةِ.

     لقدْ جاءَ ديننا الحنيفُ بما يكفلُ للمسلمِ التّخلّصَ منْ آفاتِ الحزنِ، ومن هذه العلاجاتِ: الرّضا بقضاءِ اللهِ وقدرهِ، فإيمانُ المؤمنِ أنَّ ما أصابهُ لم يكنْ ليخطئهُ، وما أخطأهُ لم يكنْ ليصيبهُ، وأنَّ الأمورَ بيد مقدّرها سبحانه، وأنَّ الأرزاقَ مقسومةٌ، والآجالَ محتومةٌ، وأنَّ نفساً لن تموتَ حتّى تستكملَ رزقها وأجلها، يذهبُ الكثيرَ من الهمومِ والأحزانِ، والمؤمنُ الحقُّ يستحضرُ حكمةَ اللهِ تعالى في كلِّ ما أصابهُ، إذ إنَّ أفعالَ اللهِ لا تصدرُ إلا عن حكمةٍ بالغةٍ، وما أجملَ أن يصحبَ التوكّلُ المؤمنَ في جميعِ حالاتهِ، يقول اللهُ سبحانه وتعالى: ﴿قلْ لنْ يصيبنا إلاَّ ما كتبَ اللّهُ لنا هوَ مولانا وعلى اللّهِ فليتوكّلِ المؤمنونَ﴾ [التوبة/51].

     إنَّ من يتوكّلْ على اللهِ سبحانهُ وتعالى ويصبرْ ويتجلّدْ عند وقوعِ الحزنِ والمصابِ، ينلِ الخيرَ من اللهِ وحسنَ الثّوابِ، قال تعالى: ﴿ولنجزينَّ الّذينَ صبروا أجرهمْ بأحسنِ ما كانوا يعملونَ﴾ [النحل/96]. إنَّ اللهَ سبحانه وتعالى لا يبتلي إلا ليعطيَ، ولا يمتحنُ إلا ليصطفيَ، يقول الرّسول ﷺ: “منْ يردِ اللهُ بهِ خيراً يصبْ منهُ” [رواه البخاري]، والمؤمنُ لا يرجو إلا من اللهِ وحدهُ في رفعِ حزنهِ ومصيبتهِ، ودفعِ كربتهِ وبليّتهِ، وإذا تكالبتْ عليهِ الأحزانُ رفعَ أكفَّ الضّراعةِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ يدعوهُ ليكشفَ عنهُ ضرّهُ، قال تعالى: ﴿أمّنْ يجيبُ المضطرَّ إذا دعاهُ ويكشفُ السّوءَ﴾ [النمل/62]. ولقدْ أرشدنا النّبي ﷺ منْ خلالِ سيرتهِ العطرةِ المباركةِ إلى إرشاداتٍ وتعليماتٍ عظيمةٍ، ووصايا نافعةٍ مهمّةٍ، لعلاجِ الهمِّ والغمِّ والكربِ والحزنِ، فقد وردَ عنه ﷺ أنّهُ إذا حزبهُ أمرٌ فزعَ إلى الصّلاةِ، وهو في ذلكَ يمتثلُ أمرَ اللهِ سبحانهُ وتعالى حيث يقول: ﴿واستعينوا بالصّبرِ والصّلاةِ﴾ [البقرة/45]. وكانﷺ يقولُ عند الكربِ والحزنِ والشّدّةِ: “لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ العظيمُ الحليمُ، لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ ربُّ العرشِ العظيمِ، لاَ إله إلاَّ اللهُ ربُّ السّمواتِ وربُّ العرشِ العظيمِ” [رواه مسلم]، وكان ﷺ يعلّمُ أصحابهُ -رضيَ اللهُ عنهم- ما يذهبُ عنهمُ الحزنَ، فقدْ دخلَ ﷺ ذاتَ يومٍ المسجدَ؛ فإذا هو برجلٍ من الأنصارِ يقال له أبو أمامةَ، فقال: “يا أبا أمامةَ، مالي أراكَ جالساً في المسجدِ في غيرِ وقتِ الصّلاةِ؟ قال: همومٌ لزمتني وديونٌ يا رسول اللهِ، قال: أفلا أعلّمكَ كلاماً إذا قلتهُ أذهبَ اللهُ همّكَ، وقضى عنكَ دينكَ؟ قال: بلى يا رسولَ اللهِ، قال: قلْ إذا أصبحتَ وإذا أمسيتَ: اللهمَّ إنّي أعوذُ بكَ من العجزِ والكسلِ، وأعوذُ بكَ من الجُبنِ والبخلِ، وأعوذُ بكَ من غلبةِ الدّينِ وقهرِ الرّجالِ”، قالَ أبو أمامةَ: ففعلتُ ذلكَ؛ فأذهبَ اللهُ همّي وقضى ديـني [أخرجه أبو داوود] .

     لا تستسلموا للحزنِ والمصائبِ، واصبروا فإنَّ الصّبرَ على قضاءِ اللهِ واجبٌ، واجعلوا من الأحزانِ والبلايا رافداً لكمْ لفعلِ الخيراتِ، تلجأونَ بنزولها لربِّ الأرضِ والسّماواتِ، لتنالوا أجرَ الصّبرِ والدّعواتِ.

 

وكتبه الدكتور الشيخ مروان عبد الرحمن كصك

About The Author

Imam Kifah Mustapha

Accessibility Toolbar