The Prayer Center of Orland Park

الأماني العالية…

     الحمد لله ولي المؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،  وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين وحجة الله على الخلق أجمعين، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وزوجاته ومن تبعهم بإحسان إلى اليوم الدين.

     للمرءِ مع نفسه أسرارٌ وأمنياتٌ، وتطلُّعٌ وطموحاتٌ، فما من عبدٍ إلّا وقد طافَ في هاجسهِ ألوانٌ من الأمانِي، تختلفُ صورُها باختلافِ أهلها وأحوالِهِم.

فالمريض يتمنَّى الصحة، والفقيرُ يتمنّى الغنَى، والطالبُ يطمحُ للشَّهادةِ والوظيفةِ، هذا يتطلَّعُ للمسكنِ الواسع، وذاك يُمنِّي نفسَه بالمركبِ الفاخر، وآخرُ تمتدُّ عينُهُ للمنصِبِ العالي.

       أمانيُّ وأمانيُّ لا تنقطعُ عن أهلها، وهم فيها ما بين مستقلٍّ ومستكثِرٍ؛ مستقلٌّ لا يَقْنَعُ، ومستكْثِرٌ لا يشبعُ، فـ «لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ نَخْلٍ، لَتَمَنَّى مِثْلَهُ، ثُمَّ مِثْلَهُ، حَتَّى يَتَمَنَّى أَوْدِيَةً، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ«. ولأهميَّة الأماني العالية أفرد البخاري في صحيحه كتاب التَّمَنِّي. ولهذا فإنَّه يُسْتحبُّ للعبد أن يُكْثِرَ من تمنِّي الصَّالحاتِ.

أُعَلِّلُ النَّفْسَ بِالْآمَالِ أَرْقُبُهَا *** مَا أَضْيَقَ العَيْشَ لَوْلَا فُسْحَةُ الأَمَلِ
     كرمُ ربِّنا خيرٌ وأوسعُ، فإنْ تمنَّى العبدُ الخيرَ والمعروفَ، فهي حسناتٌ صالحاتٌ، وإِن لم تعملها جوارحُهُ، وإِن تمنَّى الإثم والسُّوءَ فهي أوزارٌ في صحيفتِهِ وشقاءٌ لم يعملهُ. أخرج الإمامُ أحمد والتّرمذيُّ، عن أبي كبشة الأنماريِّ: «إنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ، وَذَكَرَ مِنْهُمْ: وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلاَنٍ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالًا، فَيَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ» أي: في تضييع مالهِ وصرفه في وجوهِ الحرامِ، قال: «فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ».

     في سِيَرَ سلفنا وصالحي أمَّتنا، أماني وأمنيات، وطُّموحاتٍ وتطلُّعاتٍ.. القدوةُ في هذا الباب نبيُّنا عليه الصلاة والسلام، تمنَّى أمنياتٍ عدَّةً، تمنَّى لو أنَّ له مثل أُحُدٍ ذهبًا، فلا يأتي عليه ثلاثُ ليالٍ إلَّا وقد أَنْفَقَهُ في سبيل الله. وتمنَّى هدايةَ قومه؛ حتَّى قال له ربُّه: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾]سورة فاطر: الآية 8[ ..

     وتمنَّى أن يكون أكثرَ النَّاس تبعًا يوم القيامة.. وتمنَّى رؤية إخوانِهِ؛ «وَدِدْتُ أَنِّي رَأَيْتُ إِخْوَانِي الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ».. وتمنَّى أن تكون أمَّتُهُ شَطْرَ أهل الجنَّة. أمَّا صحابتُه – رضوان الله عليهم – فقد كانت لهم أمنياتٌ وأيُّ أمنياتٍ! ربيعةُ بن كعبٍ الأسلميُّ يتمنَّى مرافقة النبيِّ ﷺ في الجنَّة، فقال له النبيُّ ﷺ «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ«.

     أمَّا فاروقُ الأمَّةِ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رضي الله عنه فقد كان كثير التَّمني؛ تمنَّى أن يُغْنِيَ أرامل أهل العراقِ، فقال: “لَئِنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ، لَأَدَعَنَّ أَرَامِلَ أَهْلِ العِرَاقِ لاَ يَحْتَجْنَ إِلَى رَجُلٍ بَعْدِي أَبَدًا، قَالَ: فَمَا أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا رَابِعَةٌ حَتَّى أُصِيبَ”. أخرجه البخاري.

     اجتمع بالصحابة يومًا فقال لهم عمر: تَمَنَّوْا؟ فقال أحدهم: “أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ مَمْلُوءَةٌ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ عُمَرُ: تَمَنَّوْا؟ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ مَمْلُوءَةٌ لُؤْلُؤًا وَجَوْهَرًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ عُمَرُ: وَلَكِنِّي أَتَمَنَّى رِجَالًا مِلْءَ هَذِهِ الدَّارِ مِثْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الجَرَّاحِ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ جَبَلٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، أَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَةِ اللهِ”.

وقال لأصحابه في خلافته: “وَدِدْتُ أَنِّي فِي الجَنَّةِ؛ حَيْثُ أَرَى أَبَا بَكْرٍ”، ويوم طُعِنَ رضي الله عنه توافد إليه النَّاسُ يَعُودُونَهُ، ويُثْنُونَ عليه خيرًا، فتمنَّى أن ينجوَ منها كَفَافًا، لا لهُ ولا عليه، وتمنَّى حين أدركه أجلُهُ أن يُدفن مع صاحبِهِ نبيِّ الله ﷺ وأبي بكرٍ.

دببتَ لِلْمَجْدِ والسَّاعُون قد بلَغُوا                    جَهْدَ النفوسِ وألقَوْا دونه الأُزُراَ

فكابَروا المجدَ حتَّى ملَّ أكثرُهم                     وعانق المجدَ مَن أوفَى ومَنْ صَبَرا

لا تحسَبِ المجدَ تمرًا أنتَ آكلُهُ                    لن تبلغ المجدَ حتى تلْعَقَ الصَّبِرا

     من الأمنياتِ العالية: أن يتمنى المرءُ أن يكون من أهل القرآنِ ليحيا به آناءَ الليل والنهار، أو يكون من أهلِ الثراء، ليبذلَ نعمةَ المالِ في وجوه البرّ والإحسان.. والذي يختار سقط المتاع فإن جُلّ همّه وأمنيته أن يُعرف ويشتهر ولو على حساب رجولته ومروءته. “والمرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل”. ومن الأماني العالية، والهمّ الذي يُؤجَرُ عليه الإنسان، التمنِّي بنُصرة الإسلام والفرحِ بما ينال المسلمين من الخير والرِّفعة والتمكين، والحزنِ لما يُصيبهم من البلاء والظلم والقتل والتشريد، والمرءُ يُقلب كفيه لا يقدر لدفع ذلك، ولكن المؤمن يملك قلباً حيّاً يهتم لهم ويغتمَّ لمُصابهم: «ما يُصيبُ المُسلمُ من هَمٍّ ولا حَزَنٍ ولا نَصَبٍ إلا كَفَّرَ اللهُ به خطايَاهُ».

     والمؤمن يملك لساناً لا يَفْتَرُ بالدعاء لهم والالتجاء لمدبِّر الكون ومالك المُلك بأن يَغيثَ المسلمين ويرفعَ البلاء عنهم، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: بعث النبي ﷺ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُمُ الْقُرَّاءُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَدَارَسُونَه بِاللَّيْلِ، وَكَانُوا بِالنَّهَارِ يَجِيئُونَ بِالْمَاءِ فَيَضَعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَيَحْتَطِبُونَ فَيَبِيعُونَهُ وَيَشْتَرُونَ بِهِ الطَّعَامَ لِأَهْلِ الصُّفَّةِ وَلِلْفُقَرَاءِ فَقُتِلوا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا الْمَكَانَ فَقَالُوا: اللَّهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ وَرَضِيتَ عَنَّا، قال أنس رضي الله عنه: “فما رأيت رسول الله ﷺ حــزن حزنًا قط أشد منه عليهم، وقنت شهرًا في صلاة الصبح يدعو على أحياء من العرب”؛ أخرجه البخاري.

وكتبه الشيخ مروان عبد الرحمن كصك

.

Sign up for our email list!

Sign up to get the monthly Insight E-News, Programs & Events Announcements, as well as Ramadan and Eid information delivered to your inbox.

Accessibility Toolbar