الحمد لله رب العالمين هازم الأحزاب، ومُعذِّب الكافرين أشدّ عذاب، ومُعاقب المشركين أشدّ عقاب.
الحمد لله رب العالمين هوّن على نبيِّه الصِّعاب، وأيّد رسوله ونصره بالشباب، وأجزل على عباده المؤمنين الثواب.
ينقلُ الرّواة من زمن رسول الله عليه الصلاة والسلام أخباراً وأحاديث عن رجالٍ أشركوا بالله وتفنّنوا في معصيته وذهبوا بالكفر به حدّ الجحود والطغيان وأمعنوا في محاربة دينه وطمس مبادئه وتعاليمه. كان الرسول الأمين والصحابة التابعين سدّاً منيعاً وحصناً حصيناً في وجه هذه الهجمات التي لم تنطفئ، والله مُتمّ نوره ولو كره الكافرون، ولو كره المشركون.
حين جمع الأحزاب من المشركين جموعهم وانطلقوا إلى محاربة رسول الله في المدينة، وبعد حيلةٍ عسكريةٍ مطوّرة، وخطّةٍ دفاعيةٍ حديثةٍ نقلها سلمان الفارسي معه من حيث أتى، حفر النبي ومعه الصحابة الخندقَ حول المدينة.
كانت الخطّة تقضي بأن يمنع الرماة بنبالهم المشركين من الولوج والدخول. ونجح ما خطّط له المسلمون فلم يستطع المهاجمون بكثرتهم عبور الخندق باستثناء واحدٍ من جبابرتهم وأشدّائهم.
هذا الجبّارٌ العنيد، بقلبه الغليظ، وبصره الحديد، ولسانه السليط، الذي لو وُزِّعت قسوة قلبه على عموم أهل الأرض ما بقي للرحمة إلى قلب واحدٍ منهم سبيلا، كانت نساء قريش تخوِّف صغارها باسمه فتذكر: “عمرو بن عبد ودّ”. يقف أمام جموع المحاربين في سبيل الله وينادي سائلاً عن مبارز: “يا محمّد، أنت الذي تقول: قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. وها أنا أقول لك الآن: لقد اشتقتُ لدخول النار، أليس فيكم من اشتاق لدخول الجنّة فينازلني!”
وينشد:
ولقد بححْتُ من النداءِ بجَمْعِكم هل من مبارز
ووقفت إذ جَبُنَ المشجَّعُ وقفةَ الرجل المناجز
وكذاك إني لم أزل متسرعا قبل الهزاهز
إن الشجاعة في الفتى والجودُ من خيرِ الغرائز
-المناجز: المحارب
-الهزاهز: المعارك والحروب والشدائد
يتأهّب شابٌ في رَيْعان شبابه، في خُضرَة أيّامه، في عزّ اندفاعه، نشأ وتربّى وترعرع في مدرسة وكنف خير مبعوثٍ للعالمين، لا يخاف في الله لومة لائم ولا بأس بائس، وبعزمٍ لا يعرف الوهن ولا الضعف يقول مُلِحّاً طالباً نصرَ رسوله أو جنّة ربِّه: أنا له يا رسول الله، ناشدتُكَ أنْ لا تحرمني دخول الجنّة.
“اللهم إنّك قد أخذت مني عمي حمزة يوم أحد، فاحفظ لي عليّاً هذا اليوم”. يدعو النبي بهذا طالباً المدد الإلهي بعد أن قدَّم الدعم النفسي والعاطفي والمعنوي، إذْ سبق فخلع عباءته فألبسها عليّاً وسحب سيفه من غمده وسلّمه إيّاه ليزداد عليُّ علوّاً فوق عُلُوِّه.
يردُّ على الشعرِ شعراً:
يا عَمرو وَيحَكَ قَد أَتا كَ مُجيبُ صَوتِكَ غَيرُ عاجِزِ
ذو نَيَّةٍ وَبَصيرَةٍ وَالصِدقُ مَنجي كُلَّ فائِزِ
إِنّي لأَرجو أَن أُقي مَ عَلَيكَ نائِحَةَ الجَنائِزِ
مِن ضَربَةٍ نَجلاءَ يَب قى صِيتُها عِندَ الهَزاهِزِ
كان يقاتل باسم رسول الله، ممثِّلاً أمّةُ، كطائفةٍ ظاهرة على الحق لا يضرّها من يواجهها.
ووقوفاً عند الحِوار الدائر بين ابن الخامسة والعشرين ومبارزه الذي بلغ حدّ الثمانين، تبدأ المبارزة النفسية إذْ يقول ابن عبد ودّ وهو يعتلي حصانه لذاك الشاب: من أنت؟
يُجيب علي: أنا علي بن أبي طالب.
بسخريةٍ يقول عمرو: هل استصغروك فأرسلوك لتكون طعاماً لِحَدِّ سيفي؟!
بطلاقتِه الشهيرة، يجيب ابن عم رسول الله: بل أرسلوني لأنني أقلّهم شأناً.
كان عليٌ بهذه الكلمات يستهزئ ويضع عَمْراً موضعاً وضيعاً دَنِيّا، ويقف أمامه موقف البسيط الشأن، الواثق من نفسه، الموقِن بربّه، المؤمن برسوله، لا تُخيفه كلمات أو تهديدات ما دام يبتغي الشهادة أو النصر.
“لقد كان أبوك صديقي، وأنا لا أحبُّ أنْ أفجع أباك فيك”. يقول عمرو.
يردُّ رسولُ رسولِ الله بسدادة رأيه ومتانة موقفه: ولكنّي أريدُ أن أقتلك وأفجع أباك فيك.
يُقدّم عليٌ حلولاً سلميةً إجلالاً لدعوة ربّه وعملاً ببعثة رسوله الرحمة المهداة، ثمّ إكراماً وحِفظاً لحقّ أبيه “وبالوالدين إحسانا”. يقدِّمُ عرضاً من ثلاثة بنود. “هات الأول يا علي”، يقول عمرو.
يجيبه ابن أبي طالب: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله. إذا قلتها فدمُكَ حرامٌ علينا.
بجبروته وغطرسته وظلمه لنفسه يرفض عدوّ الله هذا العرض، ويقول مُستَقوياُ ببأسه: لا أقولها وَلَوْ كان رأسي في قاع جهنّم. هات الثانية.
“أمّا الثانية فأن ترجع ولا تقاتل رسول الله، فإذا فعلتَ فلا حرب بيننا وبينك”.
كانت دعوة عليٍ هذه دعوة سلامٍ كدعوة الإسلام. ألا يتكلّم هنا باسم صاحب الرسالة؟! أليست دعوة الإسلام دعوة سلام لا دعوة إراقة وهدر دماء. إنّه تلميذ في المدرسة المحمّدية صاحب الرسالة الربّانية. هذا التلميذ النجيب الذي دخل الإسلام دون استشارة أبيه وتبريره أنّ الله لمّا خلقه لم يستشِر أباه، فنطق الشهادة هو دون استشارة أبيه.
يأتي الجواب من عمرو: لو فعلتُ هذا لقال الناس: ضحكَ عليه صبيٌ صغير. هات الثالثة يا علي.
أمّا الثالثة فكانت ضربةً قاسيةً وزلزالاً شديداً في الحرب النفسية: أنْ تقاتلني وأنت راكبٌ فَرَسَك.
يرسم عليٌ بهذه الكلمات صورةً قتاليةً غير متكافئة القوى، فكيف لسلاح البر والمشاة أن يقاتل سلاح الجوّ والطيران! لقد كان يعلمُ أنّ ابن عبد ودٍّ أعلى منه، لكنّ معه من هو أعلى من هذا المشرك. كان يقينه بالسماء وبربّها أقوى وأشدّ وأعتى من كلّ الخيول والأحصنة…
يعقِرُ عمرو فرسه. يستلّ سيفه. يهوي به على عليّ بن أبي طالب. يحتمي المُهاجَمُ بدرعه ويثبّت السيف الذي هاجمه. يرتفع الغبار في أرض المبارزة. الصورة ضبابية. تصدح التكبيرات وتعلو. لقد فصل عليٌّ رأس عمروٍ عن جسده. يفرح النبي. يعود المنتصِرُ مرفوعَ الرأس، شامخَ الجبين المنوَّرِ بقبلةٍ أودعها عليه رسول الله قبل بداية المبارزة.
يسأل عمر: هلّا أسلبته درعه؟! فليس للعرب دِرعاً خيراً منها.
ولأنّه دينُ إنسانية ورأفة، وفي صورةٍ أخلاقيةٍ زاهية، ومشهديّةٍ رفيعةٍ بهيّة، يقول علي: ضربته فاتقاني بسوءته، واستحييتُ أن أستلبه.
لقد قدّمت هذه المبارزة دروساً إسلاميةً محمّديّةً في الإيمان، والتربية، والحروب العسكرية والنفسية، والأخلاق، والتعامل الإنساني. كان الإسلام ولا يزال دعوة للخير والمحبّة والسلام والمحبّة. وما كلّ التشويه المتوسّع والتصوير السوداويّ إلّا محاولات للالتفاف عليه وحدِّه. وما دام في الأرض رجال يوقنون بربّهم، فلا نجاح ولا فلاح لكلّ هذه السوداوية والتشويهات.
بلال شرف الدين