الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا“، ثم الصلاة والسلام على سيد المرسلين الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، وأكرمه سبحانه بتلقي القرآن الكريم، وأعطاه الفصاحة والبيان، ليكون مبشرًا ونذيرًا للإنس الجانَّ، أما بعد:
ها هو المقال الخامس من لقاءنا المتجدد حول القرآن الكريم وعلومه الشريفة، ولقد تكلمنا في المقال السابق عن أول ما نزل وآخر ما نزل خصوصًا على حسب علاج القرآن الكريم للمواضيع العضال في المجتمع ، واليوم بإذن الله تعالى سنتكلم عن معنى القرآن المكي؟ والقرآن المدني؟ وما هو الفرق بينهما؟ وخصائص وسمات القرآن المكي؟. فنقول-وبالله التوفيق-
عندما أنزل الله القرآن على سيدنا النبي ﷺأنزله منجمًا “أي مفرقًا موزعًا على ثلاث وعشرين سنة” وهذه الفترة هي فترة النبوة التي تشمل العهد المكي والمدني ، ولم يتوقف القرآن عن النزول في هذَين العهدَين” المكي والمدني” فقُسِّمَ القرآن عليهما، وسمي على اسم العهدَين”فكان القرآن المكي والمدني” ولقد أعتنى أهل العلم عناية بالغة في تتبع القرآن الكريم آيةً آيةً، وسورةً سورةً لتحديد المكي والمدني، ولكن اختلفوا في آلية تحديد المكي والمدني، على ثلاثة أقوال، فمنهم من قال بالتحديد المكانيِّ، ومنهم من قال بالتحديد الزمانيِّ، ومنهم من قال بالتحديد الخطابيِّ، وإليك بيانهم.
أولًا: التحديد المكانيِّ:
هذا القول قالوا بأن القرآن المكي ما نزل في مكة وضواحيها ولو كان بعد الهجرة، والقرآن المدني هو ما نزل في المدينة وضواحيها ولو كان قبل الهجرة، فجعلوا المكان هو الفاصل بين النوعين، وليس للزمان اعتبارًا في ذلك.
ثانيًا: التحديد الزمانيِّ:
هذا القول قالوا بأن القرآن المكي ما نزل قبل الهجرة ولو كان في المدينة، والقرآن المدني هو ما نزل بعد الهجرة ولو كان في مكة، فجعلوا الفترة الزمنية هي الفاصلة بين النوعين، وليس للمكان اعتبارًا في ذلكٍ.
ثالثًا: التحديد الخطابيِّ:
هذا القول قالوا فيه بنوعية الخطاب في القرآن الكريم، فما كان خطابًا لأهل مكة فهو مكي، وما كان خطابًا لأهل المدينة فهو مدني، ولم يعتبروا لا بالمكان ولا بالزمان.
ولقد رجح جمهور أهل العلم التحديد الزمانيِّ، فالقرآن المكيِّ هو ما نزل قبل الهجرة، والقرآن المدنيِّ هو ما نزل بعد الهجرة.
فكان من تتبع العلماء للمكي للمدني أن وصلوا إلى الاتفاق على عشرين سورةً مدنية، واثنتين وثمانين سورةً مكية، واختلفوا في اثنتي عشرة سورةً، فيكون مجموع السور مائة وأربع عشرة سورة.
أولًا: السور المدنية:
1/ البقرة 2/ آل عمران 3/ النساء 4/المائدة 5/ الأنفال 6/التوبة 7/النور 8/ الأحزاب 9/محمد 10/ الفتح 11/الحجرات 12/الحديد 13/المجادلة 14/ الحشر 15/ الممتحنة .
16/ الجمعة 17/ المنافقون 18/ الطلاق .19/التحريم 20/ النصر .
ثانيًا: المختلف فيه:
1/ الفاتحة 2/ الرعد 3/ الرحمن 4/ الصف 5/ التغابن 6/ التطفيف 7/ القدر 8/ البينة 9/الزلزلة 10/ الإخلاص 11/ الفلق 12/الناس .
ثالثًا: السور المكية:
وقد اتفقوا على اثنتين وثمانين سورةً مكيةً، وهي ما تبقي من المائة وأربع عشرة سورة قرآنية.
خصائص القرآن المكي:
تميز القرآن المكي ببعض الخصائص التي يشعر بها القارئ والمستمع كطابع خاص به مع طابع القرآن العام ومنها على سبيل المثال وليس الحصر؛
1/الكلام عن الله وتعريف العباد بالخالق سبحانه وتعالى:
كان من أوضح خصائص القرآن المكي أنه تكلم عن الله تعالى حتى يتعرف عليه العباد فيعبدونه على علم وبينه،قال تعالى:﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۖ هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ –هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ -هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾
2/ الدعوة إلى توحيد:
من أهم خصائص القرآن المكي أنه يهتم بجانب التوحيد وترسيخه في قلوب المؤمنين، وأن الله هو الإله الواحد الخالق البارئ المستحق للعبادة، وأنه لا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا بأمره سبحانه وتعالى، وإقامة الأدلة الكونية والعقلية على توحيد الربوبية الذي يستلزم منه توحيد الألوهية، وهذا ملخص سبب بعثة الأنبياء والمرسلين، كما في قوله تعالى:
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
وقال تعالى ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾
3/ التحذير من الشرك وعبادة غير الله:
فكما أن القرآن المكي أهتم بالتوحيد وإثباته، لابد من نفي الشرك وإبطاله، كما قال تعالى ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
4/الدعوة إلى الإِيمان باليوم الآخر والبعث بعد الموت وذكر تفاصيله:
فبعد الكلام عن التوحيد ونبذ الشرك، إذا بالقرآن المكي يتكلم عن قضية البعث بعد الموت للحساب والوقوف بين يد الله تعالى في اليوم الآخروذكر الجنة والنار والصراط والميزان، حتى يكون هناك دافع قوي لدى أتباعه للتضحية من أجل الدين والثبات على عقيدتهم لأنه هناك يوم آخر غيرهذه الدنيا التي نعيشها، وكان عدم الإيمان بهذه القضية من أسباب كفر الكافرين وإعراض المعرضين.
قال تعالى ﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾
5/ قصر مقطع الآيات مع شدة القرع على المسامع:
وهذا من التأثير البياني على المستمع فالآيات المكية تتمتاز بقصر مقطعها وشدة حروفها حتى في التجويدية، فهي تقذف حروفها بالوعيد والعذاب؛ كما في قوله تعالى: ﴿ الْقَارِعَةُ ﴾ ﴿الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ﴾ ﴿ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ﴾ ﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ﴾ ﴿ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ ﴾ فحرف كلا للردع والزجر.
6/التَّحدي:
جاء القرآن باللغة العربية وهي لسان القوم وكانوا قد برعوا فيها ووصلوا لأبلغ ما يكون في استخدامها، فكان لابد أن يكون تحدي من القرآن المكي من اللحظة الأولى من نزوله حتى يتبين الفارق بين كلام البشر وبين كلام رب البشر سبحانه، فكان التحدي قال تعالى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾
7/ إيراد قصص الأنبياء وقصص الأمم السابقة وتكذبيها لرسلهم:
كقوم نوح، وهود، وقوم صالح، وشعيب، وموسى، وغيرهم، قال تعالى لمشركي مكة: قال تعالى﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾
فتبين مما سبق إهتمام العلماء في تتبع الآيات والسور وتقسيمها إلى مكي ومدني وكذلك تمييز القرآن المكي عن المدني والقرآن المدني عن المكي مع اتفاقهم في الخصائص العامة للقرآن الكريم، فكان من أبرز خصائص القرآن المكي التي تميز به عن القرآن المدني، والذي يشعر به القارئ والسامع ما ذكرت، وسوف نذكر إن قدر الله اللقاء والبقاء خصائص القرآن المدني في المقال القادم بإذن الله تعالى.
وكتبه الشيخ مصطفى اسماعيل