“الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا”، ثم الصلاة والسلام على سيد المرسلين الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، وأكرمه سبحانه بتلقي القرآن الكريم، وأعطاه الفصاحة والبيان، ليكون مبشرًا ونذيرًا للإنس الجانَّ، أما بعد:
ها هو المقال الثالث من لقاءنا المتجدد حول القرآن الكريم وعلومه الشريفة، ولقد تكلمنا في المقال السابق عن الوحي وتعريفه، وأنواعه، وصوره التي كان يأتي عليها سيدنا النبي ﷺ، واليوم بإذن الله تعالى سنتكلم عن اللقاء الأول بين الوحي وهو جبريل عليه السلام والنبي ﷺ، وما هو أول ما نزل من القرآن ؟ وآخر ما نزل ما القرآن؟.
أولًا: اللقاء الأول بين الوحي وبين النبي ﷺ :
أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت :
“أَوَّلُ ما بُدِئَ به رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ في النَّوْمِ؛ فَكانَ لا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، فَكانَ يَأْتي حِرَاءً فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وهو التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ- ويَتَزَوَّدُ لذلكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ فَتُزَوِّدُهُ لِمِثْلِهَا، حتَّى فَجِئَهُ الحَقُّ وهو في غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فِيهِ، فَقالَ: اقْرَأْ، فَقالَ له النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فَقُلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: اقْرَأْ، فَقُلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: اقْرَأْ، فَقُلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} حتَّى بَلَغَ {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 -5]” -الحديث-. فكان هذا هو اللقاء الأول بينهما، وكان فيه أول ما نزل من القرآن، ولكن كثر الاختلاف بين أهل العلم عن أول ما نزل من القرآن على اطلاقه، ومقيدًا بموضوعه.
ثانيًا: أول ما نزل من القرآن:
معرفة أول ما نزل من القرآن من الأهمية بمكان، لأنه كان بداية ربط السماء بالأرض ، بعد انقطاع دام قرون من الزمان، وبه اتصلت الدنيا بالآخرة، وقد تناول هذا أول ما نزل من القرآن على الإطلاق وآخر ما نزل على الإطلاق ، كما تناول أول ما نزل وآخر ما نزل في كل تشريع من تعاليم الإسلام ، كالأطعمة ، والأشربة ، والقتال . . . ونحو ذلك . وللعلماء في أول ما نزل من القرآن على الإطلاق، أو على التقيد، وآخر ما نزل كذلك أقوال ، نجملها فيما يأتي.
ومن أجل أن نعلم الأمر ويتضح بسهولة ويسر نقسم أول ما نزل إلى أقسام
أولًا: أول ما نزل مطلقًا
ثانيًا: أول ما نزل بعد انقطاع الوحي.
ثالثًا: أول ما نزل كاملًا.
رابعًا:أول ما نزل في الأحكام.
أولًا: أول ما نزل مطلقًا:
أصح الأقوال أن أول ما نزل هو قوله تعالى : ” اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿1﴾ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿2﴾ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿3﴾ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿4﴾ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴿5﴾ ،
ويدل عليه حديث بدئ الوحي السابق ذكره وفيه فَقالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} حتَّى بَلَغَ {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 -–5]” -الحديث-
ثانيًا: أول ما نزل بعد إنقطاع الوحي بعد اللقاء الأول:
وهي سورة المدثر . لما أخرجه الشيخان(البخاري ومسلم ) في صحيحهما من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : أَنَّ جابِرَ بنَ عبدِ اللَّهِ الأنْصارِيَّ، قالَ: وهو يُحَدِّثُ عن فَتْرَةِ الوَحْيِ فقالَ في حَديثِهِ: قال رسول الله ﷺ بَيْنا أنا أمْشِي إذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّماءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فإذا المَلَكُ الذي جاءَنِي بحِراءٍ جالِسٌ علَى كُرْسِيٍّ بيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، فَرُعِبْتُ منه، فَرَجَعْتُ فَقُلتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فأنْزَلَ اللَّهُ تَعالَى: “يا أيُّها المُدَّثِّرُ. قُمْ فأنْذِرْ” إلى {والرُّجْزَ فاهْجُرْ} [المدثر: 5].ثم فَحَمِيَ الوَحْيُ وتَتابَعَ.
فهذا الحديث يدل على أن هذه القصة متأخرة عن قصة حراء -فتكون ” المدثر ” أول سورة نزلت بعد فترة الوحي- وقد استخرج جابر ذلك باجتهاده فتقدم عليه رواية عائشة ، ويكون أول ما نزل من القرآن على الإطلاق “اقرأ” ، وهي للنبوة أي ليكون نبيًا ﷺ، وأول ما نزل بعد فترة الوحي : “يا أيُّها المُدَّثِّرُ” ، وهي أول ما نزل للرسالة أي ليكون رسولًا داعيًا ﷺ.
ثالثًا: أول ما نزل كاملًا:
وأول ما نزل كاملًا هي سورة ” الفاتحة ” والارجح أن المقصود أول سورة كاملة وهي مكية لقوله تعالى:”وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ” الحجر/87.
وظل الوحي ينزل على النبي ﷺ منجمًا أي مفرقًا على مدار ثلاث وعشرين سنة، حتى جاءت نهاية الأمر بآخر ما نزل من القرآن، وكما هو الأمر في أول ما نزل من اختلاف، كذلك في آخر ما نزل، أختلف أهل العلم في ذلك بين آخر ما نزل مطلقًا أو مقيدًا.
رابعًا: آول ما نزل من الأحكام:
فهذا سنفرد له مقالًا لأهمية وكثرة الدروس المستفادة منه بإذن الله تعالى.
ثالثًا: آخر ما نزل من القرآن مطلقًا:
أولًا: آخر ما نزل مطلقًا:
رجح أهل العلم أن آخر ما نزل قوله تعالى في سورة البقرة “وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ “(البقرة:281). وذلك لما أخرجه النسائي في سننه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: آخر ما نزل من القرآن كله” وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ” وقد عاش النبي ﷺ بعد نزولها تسع ليال ثم مات لليلتين خلتا من ربيع الأول.
ثانيًا: آخر ما نزل في الربا:
وذكر بعض أهل العلم أن آخر ما نزل قول الله تعالى في سورة البقرة: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ” البقرة:278. وذلك لما أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عباس والبيهقي في سننه عن ابن عمر. ولكن جعل هذا آخر ما نزل مقيدًا ولكن مطلقًا.
وقيل آية الدَين في سورة البقرة : قال تعالى ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ” -الآية-البقرة:282. وهي أطول آية في القرآن، وذلك لما أخرجه أبو عبيد في الفضائل عن ابن شهاب قال: آخر القرآن عهداً بالعرش آية الربا وآية الدين، وما أخرجه ابن جرير عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن عهداً بالعرش آية الدين.
ثالثًا: آخر ما نزل كاملًا:
وآخر ما نزل من القرآن هي سورة النصر: “إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ” لما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: تَعْلَمُ آخِرَ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنْ الْقُرْآنِ نَزَلَتْ جَمِيعًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ “إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ” قَالَ: صَدَقْتَ. وكذلك فيها نعي النبي ﷺوقرب أجله.
رابعًا: آخر ما نزل من الأحكام:
وهذا الذي سنتاوله بإذن الله في المقال القادم أول ما نزل آخر ما نزل في التشريع والأحكام لما فيه من الفوتئد العظام، إن قدرالله لنا اللقاء والبقاء.
وكتبه الشيخ مصطفى اسماعيل