The Ten Charters in Surat Al-Anam Part 1

المواثيق العشر في سورة الأنعام (1)

     الحمدُ لله ربِ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ المُرسلين سيدِنا ونبيِنا محمدٍ ﷺ وعلى آلِه وصَحبِه أجمعين.

     يقولُ اللهُ تعالى في مُحكمِ التنزيل: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الأنعام/151].
وقال ابنُ مسعودٍ رضي اللهُ عنه: “مَن أراد أن ينظر إلى وصيةِ محمدٍ ﷺ التي عليها خاتمه فليقرأ: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ﴾ إلى قولِه: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا﴾”.

     نتحدثُ اليومَ عن الوصايا العشر التي وصى اللهُ تعالى بها في سورةِ الأنعام، وهي وصايا نزلت في كلِ الشرائع التي أنزلها اللهُ تعالى إلى عبادِه عبر امتدادِ الزمانِ والمكان. إنها وصايا تحملُ مضامين دينية وخُلقِية واجتماعية تضمنُ للأفرادِ والمجتمعاتِ حياةً صالحةً ومُستقِرة.

  • الوصية الأولى: الإيمانُ باللّهِ وعدمُ الإشراكِ به

     الإيمانُ باللهِ هو أصلُ شجرةِ الإسلام وما تَبقَى مِنْ تصوراتٍ ومبادىء وقيمٍ وأحكامٍ إنما هي بمثابةِ الفروع والأغصان والثمار لهذه الشجرة قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾؛[إبراهيم/24] إن سقوط الغصن أو الفرع – وإن أثَّرَ- في شكلِ الشجرة إلا أنه لا يُسقِطها؛ ولكن سقوط الساق يعني سقوط الشجرة؛ ولذلك يغفر اللهُ تعالى الذنوبَ جميعاً إلا نقض أصول الإيمان قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا﴾ [النساء/48]. وقد ضرَب اللهُ تعالى مثلاً صوَّر فيه حال المُشرِكين في بُعدِهِم عن الهُدَى، وفي بُعدِهِم عن النجاة كالساقط مِنْ السماءِ إلى الأرض فهو إما أن تتخطفَه الطيورُ الجارحةُ فتُمزِقَه إرباً إرباً، وإما أن تَهوِي به الريحُ في مكانٍ سحيق قال تعالى: ﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيق﴾ [الحج/٣١]؛  فلنجعل إيمانَنا باللّهِ تعالى راسخاً كالجبال لا تُزلزله عواصفَ الحياة، ولنُعمِّق عِلاقتَنا معَه محبةً وخوفاً ورجاءً، ولنُقبِل عليه إقبال الغريق الذي لا يرى النجاة إلا في الاعتصام بحبلِه المتين، قال ابنُ القيم رَحِمَه الله: “إن في القلبِ شعثٌ لا يلِمُه إلا الإقبالُ على الله، وعليه وحشةٌ لا يُزِيلها إلا الأنسُ به في خَلوتِه، وفيه حزنٌ لا يُذهِبه إلا السرورُ لمعرفتِه وصِدق معاملتِه، وفيه قلقٌ لا يُسكِنُه إلا الاجتماعُ عليه والفرارُ مِنه إليه، وفيه نيرانُ حَسراتٍ لا يطفِئُها إلا الرضا بأمرِه ونهيِه وقضائِه ومعانقةِ الصبر على ذلك إلى وقتِ لقائِه، وفيه طلبٌ شديدٌ لا يقفُ دون أن يكونَ هو وحدُه مطلوبَه، وفيه فاقةٌ لا يَسدُها إلا محبتُه ودوامُ ذكرِه والإخلاصُ له، ولو أُعطِيَ الدنيا وما فيها لم تسِد تلك الفاقة أبداً”.

  • الوصية الثانية: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام/١٥١]

     قَرَن اللهُ تعالى بين الإيمان به والإحسان إلى الوالدين في عددٍ مِنْ الآيات ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [البقرة/83]، ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [النساء/36]، ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الأنعام/١٥١]، ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ ﴾ [الإسراء/4]؛ وهذا لأن الوالدَين هما السببُ الماديُ لوجودِنا في الحياة؛ ولأنهما مَنْ تحملَا الرعاية المادية منذ الصغر مأكلاً ومَلبساً ومأوىً، ومَن تكفَلا بالرعاية المعنوية تربيةً وإرشاداً وعطفاً وحناناً؛ ولذلك أمر اللهُ تعالى بالإحسانِ إليهما وفاءً لإحسانِهما وحذَّر مِنْ إيذائِهِما – خاصةً عند الكِبَر- ولو بتعابير الوجه، قال تعالى: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخفِض لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحمَةِ وَقُل رَبِّ ارحَمهُما كَما رَبَّياني صَغيرًا﴾ [الإسراء/23].

  • الوصية الثالثة: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام/151]

     الإملاق هو الفقر، والمعنى واضح وقد كان قتل الأولاد خوفاً مِنْ الفقر مَوجوداً في الجاهلية، وقد زيَّن ذلك لهم قادتُهم مِنْ شَياطِين الإنس والجن قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ۖ﴾ [الأنعام/137]، وبحمدِ اللهِ لا يُوجَد في زمانِنا هذا مَنْ يقتل أولادَه بسببِ الفقر؛ ولكن ربما وُجِدَ مَنْ يرفض الإنجاب خوفاً مِنْ الفقر أو هروباً مِنْ التربية؛ ولكن المؤمنَ يثقُ بربِه ولا يفعل ذلك لأنه يُوقِن بأن الرزَق قد تكفَل به اللهُ تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[العنكبوت/60].

  • الوصية الرابعة: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ [الأنعام/151]

     الفواحش هي كبارُ الذنوب فوصَّى اللهُ تعالى بعدمِ الاقترابِ منها وهو أبلغُ لأن الاقترابَ منها يَجرُ إلى الإقتراف، فنهى اللهُ تعالى عن الاقترابِ مِنهَا ما ظهَرَ منها وما بطَن، ومعنى ما ظهَرَ منها أي ما كانت طبيعتُه الظهور مثل النَهب والتبذير واستغلال حاجة الناس وقت الأزمات والقذف وإشاعة الزنا علناً، وما بطَن ما كانت طبيعتُه الخفاء مِثل السرقة والزنا الذي يُمارَس خفيةً، والفساد الخفي مِثْل الرشوة والمحسوبية واستغلال السُلطَة؛ فكلُ هذا قد وصَّى اللهُ تعالى بعدمِ الاقترابِ منه. عن أبي هُريرة رضي اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: “اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقاتِ، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ وما هُنَّ؟ قالَ: الشِّرْكُ باللَّهِ، والسِّحْرُ، وقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بالحَقِّ، وأَكْلُ الرِّبا، وأَكْلُ مالِ اليَتِيمِ، والتَّوَلِّي يَومَ الزَّحْفِ، وقَذْفُ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ الغافِلاتِ” رواه البخاري.

  • الوصية الخامسة: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الأنعام/١٥١]

     إن قتَل النفسِ مُحرَمٌ في الإسلام ولو كان المقتول مِنْ غيرِ المُسلمِين والقتل الجائز هو القتل بالحقِّ في الجهادِ المشروع أو القَصاص العادلِ؛ ففي الجهاد المشروع يُقاتِل المُسلِمُون من أجلِ دفعِ الظلم والعدوان الواقع عليهم، ومن أجلِ منعِ الفسادِ في الأرض قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ ﴾ [الحج/39].

  فالقتالُ في هذه الحالة  مشروعاً حتى لا يُستضعَف المُسلِمُون ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا﴾ [النساء/75]، فهذا جهادٌ حق.

كذلك يجوز القتلُ في القِصاص العادل لقاتل النفس من أجلِ إنصافِ أولياءِ المقتول حتى لا ينالوا مِن أولياءِ القاتل ظلماً وعدواناً، فينتشرُ سفكَ الدّماءِ في المجتمع، ولذلك جعلَ اللهُ تعالى القِصاصَ حياة لنتقي به سفكَ الدماء وحماية للأنفس البريئة ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. [البقرة/179]

     هذه خمس وصايا مِنْ الوصايا العشر وسنتناول في الموضوع القادم إن شاء الله بقية الوصايا، والمقصود مِنْ هذه الوصايا أن نلتزمَ بها في الحياة وأن نَعقِلَ حكمةَ اللهِ تعالى فيها، وفي تشريعِه الذي تتحقق به السعادة في الدارين ﴿طه* مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى* إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾[طه/1-3].

وكتبه الشيخ الدكتورمروان عبد الرحمن كصك

About The Author

Imam Kifah Mustapha

Accessibility Toolbar