الوصايا العشر في سورة الأنعام الجزء 2
الحمدُ للهِ ربِ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ المُرسلين سيدِنا ونبيِنا محمدٍ ﷺ وعلى آلِه وصَحبِه أجمعين، وبعد:
نُواصلُ الحديث عن الوصايا العشر التي وصَى اللهُ تعالى بها في سُورةِ الأنعام، وهي وصايا نزلت في كلِ الشرائع التي أنزلها اللهُ تعالى إلى عبادِه عبر امتدادِ الزمانِ والمكان. إنها وصايا تحملُ مضامين دينية وخُلقِية واجتماعية تضمنُ للأفرادِ والمجتمعاتِ حياةً صالحةً ومُستقِرة. وقد تناولنا منها في المقالة السابقة خمس وصايا هي الإيمانُ باللهِ وعدمُ الإشراكِ به، والإحسانُ إلى الوالدين، وعدمُ قتلِ الأولادِ خشيةَ الفقر، والابتعادُ عن الفواحشِ الظاهرة والباطنة، والنهيُ عن قتلِ النفسِ التي حرَّم اللهُ إلا بالحق، ونستكملُ بقيةَ الوصايا في هذه المقالة إن شاء الله.
- الوصية السادسة: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ﴾ [الأنعام/152]
بعد أن وصانا اللهُ بحقِه تعالى، وحقِ الوالدين، وحقِ الأولادِ في الحياة، وحقِ النفسِ الإنسانية عامةً في الوجود وصَّانا بحقِ اليتيم الذي ماتَ أبوه وهو صغير وقد حُرِم مِنْ رعايتِه وحَنانِه وهو في أشدِ الحاجةِ إليه فاستحق العناية أكثر في نظرِ الإسلام؛ ولذلك وصَّى اللهُ تعالى بحفظِ مالِه حتى لا يفقِدَ أباه ومالَه في آنٍ واحد؛ وجاءت الوصيةُ بعدمِ الاقترابِ مِنْ مالِه إلا في حدودِ تنميتِه والصرفِ مِنه على ما يلزم ذلك كرواتب الأفراد الذين يستثمرون في مالِه وسائر المصروفات المترتبة على استثمارِ المال، وما أجملُ تعبيرِ اللهِ تعالى إذ نهى عن الاقترابِ مِنْ مَالِ اليتيمِ إلا بالتي هي أحسن وهذا يشمل ألا يُترَك مالُه تأكلُه الصدقة، وألا يتم استثمارُه في صفقاتٍ خاسرة أو يَغلِب عليها الخسارة، وألا يتم تبديده فيما لا ينفع، وألا يُضَم مالُه إلى مالِ الولي أو الوصِي قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء/10].
ومن رحمةِ اللهِ تعالى أن ورَد ذِكْر اليتيم واليتامى في القرآن الكريم في عشرينَ موضعٍ في سياقِ الإحسانِ إليهم، وإكرامِهِم، وإيوائِهم، وإطعامِهم، والإنفاقِ عليهم، والإصلاحِ لهم، وعدم الاقترابِ مِنْ أموالهِم إلا بالتي هي أحسن، والتعامل معهم برفقٍ والنهي عن قَهرِهم قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾ [الماعون/9]. وقال تعالى أيضاً: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ [الماعون/1-3]؛ جاء في التفسير الوسيط:
“يدع اليتيم أي: “يقسو عليه، ويزجره زجراً عنيفاً، ويسدُّ كل باب خير في وجهِه، ويمنع كلَ حقٍ له … فقوله: يَدُعُّ من الدع وهو الدفع الشديد، والتعنيف الشنيع للغير”؛ وكل هذا يُؤكِد عظيمَ حرمةِ حقِهم في الإسلام، وعظيمَ رحمةِ اللهِ تعالى بعبادِه الضُعفاء ومنهم اليتامى.
- الوصية السابعة:﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ﴾ [الأنعام/152]
إيفاء الكيل والميزان وذلك تحقيقاً للقسط في المعاملات بين الناس؛ وقد توعَد اللهُ تعالى المُطفِفين بالويل يوم القيامة قال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِين﴾ [المطففين/1] إن التطفيف أحبتي يعني استيفاء الحقّ مع التقصير في القيامِ بحقوقِ الآخرين، وهو المعنى الذي أشارَ إليه اللهُ تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ [المُطفِفين/ 2-3]. وبهذا المعنى فإنّ التقصير في أداء الوظيفة، وعدم الالتزام بالمكاييل والموازين المُتعارَفِ عليها، وعدم الالتزام بالمواصفات والمقاييس المتفق عليها في الصناعات أو العقارات وغيرها، يُعتبر من التطفيف في الميزان؛ لأنه يقوم على استيفاء الحقّ والتقصير في القيام بالحقّ المُقابل، وبذلك يُحقق الظلم في المعاملات، ويُقلل الثقةَ بين الناس، ويُنشيءُ العداوةَ والبغضاءَ بينهم؛ ولذلك شدَّدَ اللهُ تعالى على النهي عنه، وأمَرَ بإيفاءِ الكيل والمِيزان لأنه يُحقِق القسط في المعاملات بين الناس. إن بُذل الوسعُ في استيفاء الكيل والميزان هو المطلوب، وما يحصل بعد ذلك من تقصير غير مقصود فإن اللهَ تعالى يعفو عنه، قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاۖ﴾. [الأنعام/152]
- الوصية الثامنة:﴿وإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ ﴾ [الأنعام/152]
بعد أن وصانا اللهُ تعالى بالتزام القسط في المعاملات ذات الطبيعة المالية للحفاظ على الحقوق المادية للأفراد داخل المجتمع جاءت الوصية الثامنة أحبتي عن التزام العدل في الأقوال حفاظاً على الحقوق المادية والمعنوية للأفراد، وبالتالي يُعتبر نشر الشائعات في المجتمع، والاغتيالات المعنوية للأفراد، والسخرية منهم، والبهتان، والكذب، وشهادة الزور كلها صُور تُجافِي العدل في الأقوال ولذلك نهى اللهُ تعالى عنها مما يُوجِب علينا التزام العدل في الأقوال حفاظاً على الحقوق المادية والمعنوية للأفراد داخل المجتمع. وهذه الوصية تسري على الأقرباء والأعداء؛ فلا يشهد المؤمنُ بالزور لصالح قريبِه ﴿وإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰۖ﴾ [الأنعام/152] ولا يشهد بالزور ضد خصمِه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة/8].
إن الإلتزامَ بمسؤولية الكلمة أمرٌ إلهي فلا يجوز أن ينطق المؤمنُ إلا بالحقِّ والعدل، وهو يعلم أن جوارحَه ستشهد عليه يوم القيامة خيراً أو شراً؛ ولذلك علينا جميعاً أن نلتزم الاستقامة حتى تشهد جوارحُنا لنا لا علينا قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [فصلت/ 22].
- الوصية التاسعة:﴿وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[الأنعام/152].
ثم جاءت بعد ذلك الوصيةُ بالوفاءِ بالعهد سواء كان مع اللهِ تعالى أو مع الناس قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء/34]؛ وذلك أن العهدَ سيُسأل عنه العبدُ يوم القيامة إن لم يفِ به؛ ولذلك أمَرَ اللهُ تعالى بالوفاءِ به حتى مع غير المسلمين ما داموا راعين للعهد، واعتبر الإيفاء به من التقوى قال تعالى: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِۦٓ إِلَّا ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ۖ فَمَا ٱسْتَقَٰمُواْ لَكُمْ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة/7]، كما اعتبر عدم الإيفاء به من خصال المنافقين قال رسولُ اللهِ ﷺ: “آيةُ المُنافِقِ ثلاثٌ: إذا حدَّثَ كذَبَ، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا ائْتُمِنَ خان” متفق عليه؛ ولذلك التزم رسولُ اللهِ ﷺ بالعهد حتى مع الأعداء المُقاتلين له كما فعل في صلح الحديبية، وكما فعلَ في غزوةِ بدر عندما منع حذيفةَ وأباهُ مِن القتال – وهو في أشدِ الحاجةِ للمقاتلين- ولكن لأنهما عاهدا المشركين على عدم القتال مع رسولِ اللهِ ﷺ وتمَّ الإفراجَ عنهما بهذا العهد لذلك منعهما رسولُ الله ﷺ من المشاركة في غزوة بدر.
- الوصية العاشرة: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام/153].
اتباعُ الصراط المستقيمِ وعدمُ الميل عنه يُمنَةً بالغلوِ والتشدد ويُسرَةً بالتقصير والتراخي، فعن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي اللهُ عنه قال: “خطَّ رسولُ اللهِ ﷺ خطًّا بيدِه ثم قال: هذا سبيلُ اللهِ مستقيمًا، وخطَّ خطوطًا عن يمينِه وشمالِه، ثم قال: هذه السبلُ ليس منها سبيلٌ إلا عليه شيطانٌ يدعو إليه، ثم قرأ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكم عَنْ سَبِيلِهِ﴾” أخرجه النسائي وأحمد.
قال ابنُ القيم رَحِمَه الله: “ما أمَر اللهُ بأمرٍ إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريطٍ وإضاعةٍ، وإما إلى إفراطٍ وغلوّ، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه… فكما أن الجافي عن الأمر مُضيِّعٌ له فالغالي فيه مٌضيِّعٌ له، هذا بتقصيرِه عن الحدّ وهذا بتجاوزِه الحدّ” مدارج السالكين.
إن وسطية الإسلام هي التزام الصراط المستقيم عقيدةً وعبادةً وسُلوكاً ومعاملةً دون إفراطٍ أو تفريط قال تعالى: ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ [البقرة/143] وقال تعالى عن صفاتِ عبادِ الرحمن: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان/67]؛ ولذلك قوَّم رسولُ اللهِ ﷺ مواقفَ بعض الصحابة غلواً أو تقصيراً وأعادهم إلى الوسطية؛ ففي قصة الثلاثة الذين قال أحدُهُم: “أما أنا فأصومُ الدَّهرَ فلا أفطرُ وقال الثَّاني: وأنا أقومُ اللَّيلِ فلا أنامُ وقال الثَّالثُ: وأنا أعتَزِلُ النِّساءَ فلمَّا بلغ ذلك النَّبيَّ ﷺ بيَّنَ لهم خطأَهم وعِوَجَ طريقِهِم وقال لهم: “إنَّما أنا أَعلَمُكُم باللَّهِ وأخشاكم له ولكنِّي أقومُ وأنامُ وأصومُ وأفطِرُ وأتزوَّجُ النِّساءَ فمَن رغِبَ عن سُنَّتي فليسَ منِّي” فهنا أعاد رسولُ اللهِ ﷺ الثلاثة من التشدد إلى منهج الوسطية، كذلك أعاد أسامة بن زيد عندما شفع في المرأة المخزومية التي سرقت ونقل طلب استثنائِها من تطبيق الحدّ فقال له رسولُ اللهِ ﷺ: “أتشفعُ في حدٍ من حدودِ الله؟ ثم قام فاختطب، ثم قال: “إنما أهلك مَنْ كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدَها” البخاري ومسلم؛ فكما لم يقبل رسولُ اللهِ ﷺ موقف الغلو كما في حادثةِ الثلاثة لم يقبل التقصير كما في حادثة المرأة المخزومية؛ ولذلك علينا أن نُجسِّد وسطية الإسلام باتباع الصراط المستقيم في الحياة عقيدةً وعبادةً وسُلوكاً ومُعاملةً ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام/ 153].
وكتبه الشيخ الدكتورمروان عبد الرحمن كصك