نحن المسلمين نصوم شهر رمضان المبارك، ونعلم أن من أعظم دروسه أن نعيش تلك الأيام استسلاماً لأمر الله في تلك الفريضة، وأكثر ما نشعر به في رمضان هو الجوع؛ ليكون كل الشهر بمثابة لحظات نشارك بها الجوعى حول العالم، وإن كنّا نمتنع عن الطعام بملء إرادتنا وهو بين أيدينا، وهم يمتنعون عن الطعام غصباً عنهم وقد خلت منه أيديهم… يمر الشهر وينتهي، ونودعه بالتكبير: الله أكبر الله أكبر لا إلٰه إلا الله ولله الحمد، عيد المسلمين الأول، أو عيدهم الصغير كما اصطلح، أو عيد الصائمين، عيد الفطر.
بعد رمضان يعود الواحد منا إلى ما كان عليه قبلاً، من حياته التي ألفها بغير صيام أو جوع أو عطش، ونكاد كلنا إلا قليلاً نفكر بإخواننا الذين عشنا همهم وعشنا شعورهم في رمضان، شعورَ الحرمان وضيق ذات اليد. ليدخل علينا بعدُ شوّال ثم ذو القعدة ثم ذو الحجة، وينفر في هذا الأخير من كل بقاع الدنيا نفير الحجيج، يقطعون الفيافي والأقطار شوقاً وتلبية لأذان أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام، وتماماً لأركان إسلامهم، وقد إستطاعوا السبيل إلى ذلك بإذن ربهم.
من شعائر الحجيج التي لا تخفى على أحد: نحر الأضاحي في أفضل يوم عند الله؛ يوم النحر، ذلك اليوم الذي يعيش فيه الحاج مع أخيه الجائع فيطعم البائس والفقير ويطعم القانع والمعتر، ويشاركه من لم يحج في هذه الشعيرة استئناساً أن يتجلى عليه الله بعطية كعطايا الحجيج، فتجد في كل بقعة مؤمنة من يضحي وينحر الأضاحي، وينشر لحومها بين عباد الله فقيرهم وغنيهم على اختلاف شؤونهم وأحوالهم، في مشهد من أجمل مشاهد التكاتف والتآلف، في مشهد يجسد وحدة الأمة وإن أراد أعداؤها غير ذلك، توحدنا في قبلتنا ومشاعرنا وأعيادنا، لا فرق بين الأعراب منا والأعاجم إلا بالتقوى، التقوى الذي كان علة صيامنا يوم قرأنا قول الله: “كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعلَّكم تتقونْ” (البقرة: 183)، هو ذات التقوى في قول الله عن الأضاحي: “لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ” (الحج: 37)، فتشترك أعيادنا في كونها مسارات للتقوى ولتجديد العهد مع الله، وفِي كونها مشاركة للناس، لعباد الله، للفقراء، للأصدقاء، مشاركة تخرج بِنَا من أنانية النفس وضيقها، إلى سعة العطاء ومتعته، فلا تكتمل أعيادنا إلا مع الناس، إخلاصاً لرب الناس، واستجابة لأمره، فكما كبَّرنا في يوم الفطر، وشعرنا بالجوع شهراً، نكبِر اليوم في يوم النحر، ونقدّم الأضاحي سداً لثغرة الفقر والجوع دهراً، فتنطلق الأضاحي بأشكالها معلبة مجمدة منسقة لتصل بلداناً ما كان يحلم أهلها يوماً بأن يذوقوا فيه قطعة لحم!
نحن المسلمين لنا الفخر بأن أعيادنا ليست لنا؛ بل لنا ولغيرنا، لنا الفخر أن الله يربي فينا هذا الشعور الإنساني الرفيع؛ شعور المشاركة والمؤاثرة والتضحية والبذل والعطاء… من أجل الآخرين ومن أجل إسعادهم وإدخال السرور إلى قلوبهم المعذبة، فلا تكتمل سعادة المسلم إلا بسعادة إخوانه، ولا يكتمل إيمانه إلا بتمام أركانه، وما بين الأركان الظاهرة أركان خفية باطنة لا تخفى على ذوي الألباب، واحد منها أن تعيش مع الناس ابتغاء رب الناس.
By Sh Jafar Hawa