بعد أن قضى الإمام الشافعي خمسة عشر عاما في التتلمذ على الإمام مالك، والذي يعتبر من أكابر أئمة مدرسة الحديث، توجه إلى اليمن ليعمل قاضيا في نجران، إلا أن الأقدار لم تلبث أن حملته بسبب وشاية بعض أعدائه إلى بغداد، لتبدأ مرحلة جديدة من حياته، غيرت مسار أفكاره وقناعاته وآرائه الفقهية والاجتماعية، حيث التقى بأكابر علماء مدرسة الرأي، وعلى رأسهم الإمام محمد بن الحسن الشيباني، تلميذ الإمام أبي حنيفة، حيث خرج من هذه الرحلة بمذهب جديد، استطاع أن يحقق فيه قدرا من الاندماج بين منهجين مختلفين في الفقه الإسلامي؛ المنهج النصي الذي تتبناه مدرسة الحديث، وأهم حواضرها المدينة المنورة، والمنهج العقلي الذي تتبناه مدرسة الرأي، والتي كانت أهم حواضرها الكوفة، ثم بغداد.
كانت بغداد في ذلك الوقت تشكل بوتقة انصهرت فيها عرقيات متنوعة، من العرب والفرس وغيرهم، مما هيأها لتكون ملتقى حضاريا اجتمعت في أرجائه مختلف الموروثات الحضارية، من الشرق والغرب، فكانت جدران (بيت الحكمة) تضم بين ظهرانيها آداب فارس والهند وبلاد ما وراء النهر، مع فلسفة اليونان ومخرجات الحضارات الغربية القديمة، جنبا إلى جنب مع المنجزات العلمية والثقافية التي أنتجها العرب والمسلمون، فشكلت بذلك جسرا عبرت عليه الحضارة البشرية العصور القديمة إلى الحياة الحديثة التي نعيشها.
إن الحالة الثقافية التي شكلتها بغداد في ذلك الوقت تتشابه إلى حد كبير مع الطبيعة الثقافية التي تعيشها كثير من المجتمعات الغربية عموما، والمجتمع الأمريكي تحديدا، فقد أصبحت هذه الدول – وإن على مستوى متفاوت – ملتقى للمهاجرين من مختلف أصقاع الأرض، وكل منهم يحمل موروثاته الثقافية والدينية والاجتماعية المختلفة، لتنصهر جميعها في بوتقة واحدة مع الثقافية الأوروبية الغربية، ومخرجات الحياة المعاصرة، وما تقدمه من تطور تقني وتقدم حضاري.
ولئن كان الإمام الشافعي قد غير العديد من أقواله بسبب انتقاله الجغرافي من إقليم إلى إقليم آخر، رغم كون كل منهما تحت سلطة واحدة، وضمن مجتمع ذو أغلبية إسلامية، فكيف بالبون الشاسع ما بين الأقاليم الجغرافية المتباعدة، وما تتمايز به عن بعضها من اختلافات ديموغرافية واجتماعية وسياسية كبيرة.
ولذلك كان من الخطأ تصرف بعض الأئمة والفقهاء أحيانا عندما يتعاملون مع قضايا المجتمعات الإسلامية في الغرب باعتبارها نسخة من مثيلاتها في العالم الإسلامي، فرغم أن الحداثة والعولمة قد حولت العالم إلى قرية صغيرة، إلا أن لكل مجتمع مميزاته الثقافية، وظروفه المستقلة، وتحدياته الخاصة التي تفرضها هذه الظروف.
ويتضاعف الخلل عندما يتم استحضار فتاوى علماء المسلمين المتقدمين، وتنزيلها على الوقائع المعاصرة دون مراعاة خصوصياتها الزمانية والمكانية والاجتماعية.
وفي المقابل نجد بعض المفتين يبالغ في مراعاة احتياجات الناس ومتطلباتهم، دون أن يراعي أساسيات الفتوى وقواعدها، مما يؤدي إلى إصدار فتاوى لا تتناسب مع الفقه الإسلامي.
والعدل في هذه الحالة يتمثل في اتباع منهجية تعتمد على الرسوخ العلمي والمعرفة الشرعية الواسعة، أساسا متينا ينطلق منه المفتي، وعلى الفهم الجيد للواقع وظروفه ومتطلباته إطارا يحدد ما يصدر عنه من الفتاوى، وبهذا يحصل التناسق ما بين قواعد الفقه الإسلامي من جهة، وظروف المجتمعات الإسلامية من جهة أخرى.
ونختم ههنا بعبارة الإمام ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين: “ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان”.
الشيخ الدكتور هيثم زماعرة