من أكثر ما قد يدمي فؤاد المؤمن الطائع الذي اعتاد أن يعمر المساجد، أن يأتي إلى هذه المساجد ويرى أبوابها مغلقة في وجهه، يتشوق لمصحفه ومصلاه، يتشوق لسماع النداء وإقامة الصلاة، لكنه لا يجد إلى ذلك سبيلاً. هكذا كان حالنا في أشهر الحظر المنزلي، الذي تجرع المسلمون في أنحاء الأرض غصصه وآلامه، وهم لا يقدرون على زيارة مساجدهم وإقامة الشعائر فيها، لكنهم بفضل من الله ومنّة عادوا بعد قرابة ثلاثة أشهر ليُحيوا أنفسهم من جديد، ويعمروا قلوبهم بالإيمان من جديد، قبل إحياء هذه المساجد وعمارتها.
فيا مرحباً بقوافل العائدين، يا مرحباً بالمشتاقين، يا مرحباً بعُمّارِ المساجد مُقبلين، انتهز الفرصة لأرحب بكم أينما كنتم، وأنا أرى لذة الفرحة تبرق في عيونكم، واشعر بدفء مشاعركم فرحاً وبهجة بما لقيتكم بعد غياب طال، وبحمد الله زال.
قد غِبتم وقد غِبنا، وتفرقت طُرقنا، وتملك الحزنُ قلوبَنا، وشق علينا حالنا،افتقدنا الجُمعة بجَمْعَتِكم، والجماعة بحضوركم. افتقدكم مسجدكم، وافتقدت ساحاتُه خطواتِكم، وغابتعن باحاته أحاديثكم، حنَّت القبة إليكم، وما عاد يتردد فيها: آمين، صدى صوتكم، وتحركت شوقاً مواضع سجودكم، نادتكم الأرض بأسمائكم. ورمضان، يا حزن رمضان، كان يتيماً من غيركم، كنا كأئمة وموظفين ننعم بحضورنا في الوقت الذي مُنِعتُم، كنا ندعو الله بأسمائنا وأسمائكم، ونقول أي رب، غابوا وحضرنا، وحضرت معنا ذكراهم، وحضرت معنا أشواقهم، فتقبل دعاءنا عنا وعنهم، واجعل لهم من عبادتنا نصيباً لعله يصلهم، واكتب لنا موعداً للرجوع، نفتح الأبواب تزدحم بهم، وتسري في النفوس بهجة رجوعهم. كنا كذلك، حتى أنعم الله علينا بعد العسر يسراً، وبعد التفرق اجتماعاً، وبعد الشوق التقاءً. فالحمد لله ثم الحمد لله، أبد الدهر إلى أن يشاء الله. تتصافح القلوب، إذ لا نقدر على المصافحة، وتضحك العيون إذ لا تظهر الابتسامة، اتباعاً لتعليمات منع المصافحة وإلزام لبس الكمّامة، لكن يكفي أننا رجعنا وأطفأنا ظمأ أرواحنا المتعبة لدى رحاب الله.
أما وقد ذقنا لذعة فراق المساجد، ينبغي أن نرجع لهذه النعمة ونحن أشد حرصاً عليها، وأشد عرفاناً لها، وأشد شكراناً لله موهبها، حتى لا نحرم أبداً منها، بل نزداد تلذذاً بها؛ف”لئن شكرتم لأزيدنكم” (إبراهيم: ٧)، ومن شكرنا لنعم الله أن نرعى حق الله فيها، وفي مقالي هذا ألفت الانتباه لأمرين فقط، حُق لكل مشتاق عائد لبيوت الله أن يأخذ حظه الوافر منهما، وأن يسعى لنيل الكمال فيهما ما استطاع:
الأمر الأول: واجبنا تجاه المساجد وقد عدنا إليها بنفس جديد وروح جديدة، والمتمثل في اعمارها وصيانتها والعمل على الحفاظ عليها بما يلزمها واحترام مرافقها والأوقاف فيها، وإقامة التوحيد فيها لله وحده: “وأن المساجد لله” (الجن: ١٨)، والسعي إلى ترويض النفس على الطاعة فيها والبحث في ظلالها على ما يدفع في النفس السكينة والطمأنينة.
ثم من الواجب اعمارها بالطاعات والصلوات، والمسابقة إليها، وتذكر لحظات الصلوات الأخيرة قبل الحظر، لعلها تدفعنا إلى حفظ النعمة التي نحن فيها، نتذكر أن النعمة هذه قد تذهب من أيدينا في أي لحظة، كنا نغادر المسجد والعيون تغرورق بالدموع، حزناً وكمداً على فراقها. فحريٌ على من كان يصلي صلاة واحدة في اليوم قبلاًأن ُيكثر الآن وصاله مع بيوت الله؛ فاليوم مفتوحةٌ وغداً لا ندري، واليومعلى قيد الحياة وغداً لا ندري، فليكن حالنا من الدنيا أنناعمّارٌ لبيوت الله، فإذا ما غادرنا، نُبعث يوم القيامة على ما كنا عليه. ولا ننسى هنا ذكرى أليمة مرت بنا جميعاً، في يوم الجمعة العشرين من شوال قبل ثلاث سنوات، يوم أغلق المسجد الأقصى في وجه المصلين، ومُنع الأذان ومُنعت الجماعة، ذاقت الأمة المسلمة حول العالم، خلال الأشهر الثلاثة الماضية، ذات شعور إخواننا المقدسيين، ليكون هذا الشعور دافعاً لنا لرفع البأس والظلم المحيط بالمسجد الأقصى، بشتى الوسائل والسبل، وأن نسعى دائماً لإعمار المساجد أينما كانت، وأن يزداد تعلقنا بها فنشتاقها قبل حتى أن نغادر، فهي ظلنا الوارف، يوم لا ينفع ظلٌ إلا ظلُ الله، يستظل به من؟ “رجلٌ قلبه معلق في المساجد” (صحيح البخاري).
الأمر الثاني: واجبنا تجاه الأُخوَّة التي نبنيها في المسجد، والتي لا يمكن أن تنشأ في غيره كما هي فيه، تلتقي بإخوة لك في كل يوم على طاعة، تنشرح النفوس وتتلاقى الأرواح، وتتبادل معهم شتى الأحاديث والأحداث… واجبنا أن نحافظ على هذه الأُخوَّة، نجعلها سلمنا إلى الجنة، نجعلها شفاعتنا يوم الحاجة، ف”الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين” (الزخرف: ٦٧)، يوم نصطف بإخواننا يصدق فينا الحديث القدسي: “المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يوم القيامة يغبطهم النبيون والشهداء” (سنن الترمذي).
أُخوَّة المسجد سامية راقية، لا تعكر صفوها بما لا يحمد من مشاعر حسد أو ضغينة، غيبة أو نميمة، كل المصلين إخوانك، هم عائلتك، والمسجد بيتك، ولولا هذا لما تأثرنا كل ذلك التأثر لما أُغلقت مساجدنا، فلا يهم من أين جاءوا، وأي لغة تحدثوا، وأي جنسية حملوا، وبأي لونٍ تلونوا، الذي يهم حقاً: لمَ جاءوا؟! جمعتنا يد الله ولن تفرقنا العنصرية، قوتنا ليست فقط في تنوعنا، بل في قلوبنا وإيماننا الذي يهدينا في طريقنا، نحن المسلمين، أولى الناس بأن ننادي بالعدل والحق والحرية للجميع مهما اختلفوا، نصدح بها عالياً ونحن نقرأ قرآننا: “ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين” (الروم: ٢٢)، حري بنا نحن المسلمين ألا نقع في أوحال التفرقة والعنصرية والأفضلية والتصنيفات البالية… دعوها فإنها منتنة!.
نحن المسلمين، نصلي خمس مرات كل يوم في صفوف متساوية، لا يتقدم أحدنا على آخر، مع كل آذان نتذكر سيدنا بلالاً الحبشي، وقد اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعتلي الكعبة، ينادي في كل صلاة على كبار الصحابة وسادات العرب في ذلك الزمان، ليزرع في قلوب المسلمين أبد الدهر ألا مكان للعنصرية في دين الله، وربْطُ ذلك بالرباط الوثيق بين العبد وربه؛ في النداء للصلاة. فإذا ما حضرتَ للصلاة حضرتَ بأذان بلال، وإذا ما قال الإمام استووا واستقيموا، استويت واستقمت للصلاة، إلى جنب إخوانك المسلمين، ثم إذا ما خرجت من المسجد استويت واستقمت للحياة، إلى جنب إخوانك المواطنين.
لا بد وأنكم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة” (صحيح البخاري)، هل علمتم لماذا؟ لأن من يحضر لجماعة المسلمين يربي نفسه في كل مرة أن يكون جزءاً من المجتمع، ليس فوقهم، ولا أدنى منهم، بل واحداً منهم، يعيش همومهم وآمالهم وآلامهم، الجماعة تعلمك أنك قليل بنفسك كثير بإخوانك، الجماعة تربيك على تقبل الآخرين والبحث عن وسيلة للتلاقي معهم، ولا أفضل من الصلاة لأجل ذلك، وبإقامتك لهذه المعاني في قلبك، تستحق سبعاً وعشرين درجة أكثر من صلاتك منفرداً في بيتك. كل هذه المعاني القيّمة، تبعثها فينا مشاعر أُخوَّتِنا في المساجد، فالأُخوَّة في الله غرسة صغيرة، سِقائها الحب في الله، ومَحَلها رياض الله، نُكبِّرُها وننميها لتغدوَ شجرة عظيمة ظليلة، يوم لا ينفع ظلٌ إلا ظلُ الله، يستظل به من؟ “رجلان تحابا في الله: اجتمعا عليه، وتفرقا عليه” (صحيح البخاري).
الشيخ جعفر حوى