Orland Park Prayer Center

The Prayer Center of Orland Park

درسُ آخرِ السنة!!

كنت أُقلِّبُ بين صفحات ذكرياتي، وإذا بي تقع عيني على قصاصة كتبت فيها عن موقف عابر مرَّ بيِ، وأنا ما أزال على مقاعد الدراسة، أنقله لكم كما هو، لعل فيه النفع والفائدة، ونحن نودع عاماً ونستقبل آخر، عسى أن يجلب معه من الخير عوضاً ما فات من أماني، وما ضاع من أحلام، أترككم مع هذا الدرس، من فيض الذاكرة:

 

انتهيت من دروسي في الجامعة لذلك اليوم، وتوجهت نحو بابها خارجاً، أصواتٌ كثيرة متداخلة هناك على مدخل الجامعة؛ ذاك يصيح، وهذا يقهقه عالياً، وذاك بين أصابعه يداعبُ سُماً قاتلاً، ما أن ينتهي من جرعة، ليبدأ بجرعةٍ أخرى… ويقول لي وقد وقعت عينه بعيني خجلاً: ادعُ لي أن يريحني الله منه، وما تفكر أنه لو قذفه من فمه مخلصاً، لأراحه الله منه!

 

وبين هذه الضجة وهدوئي وأنا أسير، وقعت عيناي فجأة على أحد أصدقائنا الطلاب، إنه فلان، لقد درس معي عدة مرات، ابتلاه الله فكف بصره عن الحياة… لكنه في غمرة الضجيج هذا يعيش سلاماً لا مثيل له، أتيته مسرعاً وهو يقف قرب الطريق، أمام الرائح والغادي، سألته سريعاً: كيف حالك يا أخي؟ فأجابني: بخير والحمد لله، تابعت: هل تنتظر أحداً هنا أم ماذا؟ قال: لا، لكن أريد الرجوع إلى منزلي، وانتظر سيارة أجرة أو أحداً يوصلني إلى الطريق الرئيس، أمسكت يده وسرنا سوياً وكأنه دليلي، يعرف تفاصيل الطريق ودقائقه، وعدد خطواته والتفاتاته، وأنا المبصر وهو الكفيف!

 

صعد السيارة لوحده، وقام يشكرني ويكثر في الثناء، وكأنني تفضلتُ عليه، ولم يعلم أنه في اللحظات القادمة سيعلمني درساً لن أنساه ما حييت.

 

في الطريق تجاذبنا أطراف الحديث، حدثني عن دراسته وطلبه للعلم، لكم أن تعلموا أنه يسكن في مدينة غير العاصمة حيث الجامعة، والطريق طويلة، يمكث إلى أن يصل إلى مقصوده ما يقارب ثلاث ساعات، ويسلك المواصلات من مكانٍ لآخر، ويتدبر أمر نفسه بكل ثقة وهو كفيف!

 

له في الجامعة أربع سنوات، وهو على أعتاب التخرج، ويعمل في مسجد في قريته، ويصرف على دراسته وأهله من خلال عمله، في كلامه شعرتُ بالأمل يمثل عصفوراً طائراً أمام عينيه، يتابعه حيثما طار، فيشعل له من ظلمة عينيه نوراً يسير به في دربه الطويل، همته تعانق السحاب، وحشرجة صوته مليئةٌ برناتِ عِذاب، صامدٌ في طريقه، سائر إلى هدفه وغايته، رسمهما بيديه، وخطهما بقلمه، وهو كفيف!

 

طال بنا الحديث، وإذا به يقول لي: أنزلني في المكان القادم حيث تجد هناك دواراً، أقف عند الجهة المقابلة له حيث تمر الحافلات لأصعد إحداها، توقفت متعجباً وقلت له: أين تنزل؟ وكيف لك أن توقف الحافلة ولا تراها؟ ضحك لي، بل ربما ضحك مني، وقال: أنا لا أوقفها، بل هي من تقف لي! هذا الطريق وأصحابه يعرفونني جيداً؛ فأربع سنواتٍ وخطواتي أخطها عليه، إنما أطلب العلم لله، وهو ييسر لي طريقي، وينير لي بصيرتي.

 

ذُهلتُ، وودعته وأنا أطلبُ منه الدعاء، فمثله حريٌ بأن ترجو منه الدعاء. لبثت أرقبه حيث سار… فمشى خطواتٍ معدودات، وصعد الرصيف ووقف، وما هي إلا دقائق حتى سار بالحافلة وغاب خلف الطريق.

 

كلماته ما زالت تداعب خاطري، وتثير التساؤلات في فؤادي، نذهب للدراسة ونتبرم من طول المسير ووعورة الطريق، وهو مع كل ما لديه من تحديات، يتابع واثق الخطى، متقد الهمة، صادق البريق، يصدق فيه قول النبي ‎ﷺ: “مَن سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فيه عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ له”، وقد سهل الله له في الدنيا، ولعله كذلك في الآخرة: “سَهَّلَ اللَّهُ له به طَرِيقًا إلى الجَنَّةِ” (صحيح مسلم)، أين منك المبصرون يا أخي؟

 

وفقك الله، وشكر الله لك، درسٌ منك في آخر السنة، هو أبلغ عندي من كل دروس السنة.

 

 

 

وكتبه الشيخ جعفر حوى

 

.

Sign up for our email list!

Sign up to get the monthly Insight E-News, Programs & Events Announcements, as well as Ramadan and Eid information delivered to your inbox.

Accessibility Toolbar