Orland Park Prayer Center

The Prayer Center of Orland Park

التقديم والتأخير -١-

الحمد لله الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم. أزل كتاباً فُصِّلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون, بشيراً ونذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون.

التقديم والتأخير:
تشتهر اللغة العربية بمجموعة كبيرة من الظواهر اللغوية التي شاعت وانتشرت بين نصوصها، واتخذها النحاة واللغويون أداة للتحليل اللغوي، وسبْر أغوار اللغة، وتذوق النصوص اللغوية المختلفة، ومن أبرز هذه الظواهر: التقديم والتأخير.

-في اللغة:
والتقديم في اللغة مشتق من الجذر الثلاثي (قدم)؛ كما جاء في كتاب (العين). أما التأخير فهو مشتق من الجذر الثلاثي (أخر)، وقد جاء في المعاجم العربية: “التأخير ضد التقديم، ومؤخَّر كل شيء خلاف متقدَّمه”.
فالتقديم والتأخير متضادان، لذلك فإن المعاجم لا تذكر أحدهما بدون الآخر عند تعريف كل منهما.

-في الاصطلاح:
أما (التقديم والتأخير) اصطلاحًا، فالأصل في التركيب اللغوي، كونه جملة اسمية مكونة على الترتيب من مبتدأ وخبر، أو جملة فعلية مكونة على الترتيب من فعل وفاعل ومفعول به، أو ما في محله إن كان الفعل متعديًا، وعليه فإن أي تغيير في هذا الترتيب يُعدُّ تقديمًا وتأخيرًا في أصل التركيب وعدولًا عنه.
وتحدث “الزركشي” عن أسلوب التقديم والتأخير في لسان العرب، واعتبر أن “القول في التقديم والتأخير هو أحد أساليب البلاغة، فإنهم أتوا به دلالة على تمكنهم في الفصاحة، وملكتهم في الكلام، وانقياده لهم، وله في القلوب أحسن موقع، وأعذب مذاق”.

-في القرآن:
روي عن قتادة في قوله تعالى: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك} (آل عمران:55)، قال: هذا من المقدم والمؤخر، أي: رافعك إلي ومتوفيك.
وروي عن عكرمة في قوله تعالى: {لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} (ص:26)، قال: هذا من التقديم والتأخير. يقول: لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا.
وذكر السيوطي أن القرآن قد يقدم لفظاً في موضع، ويؤخره في آخر، والقصد من ذلك؛ إما مراعاة السياق، كما في قوله تعالى: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله} (النساء:135) وقوله سبحانه: {كونوا قوامين لله شهداء بالقسط} (المائدة:8). وإما التفنن في الفصاحة، وإخراج الكلام على عدة أساليب، كما في قوله تعالى: {وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة} (البقرة:58)، وقوله سبحانه: {وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا} (الأعراف:161).
وقبل الخوض في الحديث المعمّق عن الآية الموضوعة قيد الدراسة، لا بُدّ من الإشارة إلى أنّه ليس بالضرورة أن يتقدم من أو ما هو أفضل. فقد يتقدم المفضول ويتأخر ما هو أفضل. والسياق غالباً يحدد هذا. قال تعالى: {والذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن}. إن تقديم لفظ الكافر على المؤمن ليس لأفضلية الأول على الثاني. وكذلك في قوله تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة}، والأمثلة على ذلك كثيرة…

موسى وهارون أم هارون وموسى؟!
يقول الله تعالى في سورة طه: {فأُلقِيَ السَحَرَةُ سُجَّداً قالوا آمنا بربِّ هارون وموسى}. وقال في سورة الشعراء: {قالوا آمنا بربّ العالمين // رب موسى وهارون}.
ذهب قسم من العلماء إلى أن الأصل تقديم موسى على هارون لأن هارون أفضل، لكن الفواصل القرآنية أوجبت أن تنتهي الآية بمد الألف الذي تنتهي به كل أغلب آيات سورة طه. أما الفواصل القرآنية في سورة الشعراء فقدّمت موسى على هارون ليتناسب مع ما تنتهي به في السورة من ياء ونون أو واو ونون.
لَوْ نظرنا في نَصِّ السورتين المتعلّقَيْن بالقصة، لَوجدنا أنّ النصّ في سورة طه جعل هارون شريكاً في التبليغ وشخصية رئيسية. وألفاظ التثنية عديدة في سورة طه: لا تَنِيا- اذهبا- فقولا- قالا- لا تخافا- ربكما-رسولا… فإشراك هارون في الخطاب والرسالة والفعل، جعله بمنزلة موسى وكأن القضية أصبحت ذات جناحين: موسى وهارون. أما في سورة الشعراء, فاقتصر الحديث المباشر الموجه لِذاتَيْهما على الآتي: فأرسل إلى هارون- فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون- فاتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين. فيما كان جُلُّ الكلام موجّهاً إلى موسى منفرداً.
وفي المقارنة بينهما، يقول تعالى في سورة طه: إنْ هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى. بينما قال في سورة الشعراء: إنّ هذا لساحرٌ عليم يريد أن يخرجكم من ارضكم  بسحره فماذا تأمرون. وفي سورة طه، ذكر الله خيفة موسى ولم يذكر خيفة هارون (فأوجس في نفسه خيفةً موسى) رغم تواجدهما معاً تحت نفس الظروف ووسط كل الأحداث.
هنا وفي هذا الوضع -حالة الخوف- كان لا بُدّ من تقديم الأفصح والأجلد فقدّم هارون على موسى بناءً على الحالة التي سيطرت على هذا الأخير. وأمام هذا المشهد المهيب,. ومع عدم ذكر الخوف في سورة الشعراء، قدّم موسى على هارون باعتباره صاحب القضية الأول والمتقدّم بلا خوف.

ما من حرفٍ قرآنيّ إلّا وفيه إشارة إلى عظمة شأنك ورفعة من أنزلت عليه كتابك. تباركت اللهم أحسن الخالقين.

بلال شرف الدين

.

Sign up for our email list!

Sign up to get the monthly Insight E-News, Programs & Events Announcements, as well as Ramadan and Eid information delivered to your inbox.

Accessibility Toolbar