Orland Park Prayer Center

The Prayer Center of Orland Park

أصحابُ ظلّ عرش الرَّحمن

     حين تنشر الشَّمس أشعَّتهَا اللاهبة، ويلسعُ لهيبُها الأجسادَ المنهَكَةَ، حين يأتي الصيفُ ويشتدَّ الحرُّ ويعرَقُ الناس في كلّ حركةٍ وتنقُّلٍ، ويبلغُ الجَهدُ بالناس مبلَغًا تضيقُ به نفوسُهُم؛ فإنَّهم يُهرعون إلى الظل وإلى وسائل التبريد، وبوقفةِ تأمُّلٍ في شمسنا المحرقة حين يضيقُ بالإنسان نَفَسُهُ ويكادُ يغلي كلُّ شيءٍ حوله؛ فإنَّ المسلمَ يتذكر وِقْفَةً عظيمةً لا مناصَ عنها وكُربةً شديدةً لا مفرَّ منها، وذلك حين يجمع اللهُ الأوَّلين والآخِرِينَ على صعيدٍ واحدٍ يُسمِعُهمُ الداعي ويَنفُذُهمُ البَصَر، حينَ تَدنُو الشمسُ من الرؤوس مقدارَ ميلٍ، فلا ماءَ ولا شجر، ولا ظِلَّ ولا مَدَرَ، ولا حتى حجرَ، إنَّها أرضُ السَّاهرةِ، مُستَوِيَةٌ مبسوطةٌ، فأين المفرُّ؟! ، وإلى أين يكون المستقرُّ؟! أإلى الجنَّةِ أم إلى سَقَرَ؟، إنَّه يومٌ تشتدُّ فيه الكُرْبَةُ وتضيقُ النُّفوسُ، وليس ذلك في شهرٍ أو شهرين، إنَّه يومٌ مقدارُه خمسونَ ألفَ سنةٍ، حتَى يقضِيَ اللهُ تعالى بين الخلائق.

      وفِي خِضَمّ هذه الشَّدائدِ والكُرَبِ وبينما الناسُ في هَمٍّ وغَمٍّ وعذابٍ وضَنكٍ إذْ بِفِئةٍ من المؤمنينَ مـمَّن أكرَمَهُم اللهُ تعالى ليسوا من هذه الشدَّة في شيءٍ؛ إنَّهم في ظلّ عرش الرَّحمن، قد اصطفاهم اللهُ فأكرَمَهُم ورعاهم فِي كَنَفِهِ وأحاطَهم بلُطفه، فَهُمْ في ظلّ وارفٍ حتى يُقضى بين العبادِ. في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ، إِمامٌ عادِلٌ، وشابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّه تَعالَى، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بالـمـَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ، اجتَمَعَا عَلَيهِ، وتَفَرَّقَا عَلَيهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ، ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأَخْفَاهَا، حتَّى لَا تَعْلَمَ شِمالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينهُ، ورَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ«.

     إنَّ الجامعَ بين هذه الأصنافِ السَّبعةِ هو خشيةُ الله تعالى بالغيبِ، وتقواهُ فِي السر والعلنِ، وتقديمُ أمر الله على هوى النَّفسِ مع قُدرتهم على خِلافه؛ فالإمامُ يعدِلُ مع قدرته على الحيفِ والظُّلم، لكنه عظَّمَ اللهَ في قلبه وعلم قدرتَهُ عليه ووَقَرَ الإيمانُ في قلبه، فاتَّقى الله في أمانتِهِ، وبدأ به لكثرة مصالحه وعمومِ نَفعه.

    أمَّا الشابُّ الذي نشأ في عبادةِ الله فقد شَبَّ وتَرَعرَعَ متلبّسًا بالعبادة مُلتصقًا بها، لم تُلهِهِ فُتوَّةُ الشّباب، ولم يَغُرَّهُ طولُ الأملِ، بل غلَبَ نفسَهُ في عُنفُوانِ شبابه، وملأ قلبَهُ الإيمانُ والتَّقوى، فنشأ في طاعة الله وعبادته، ليست له صَبْوةٌ ولا كَبوَةٌ.

     وأمَّا الذي تعلَّق قلبُهُ بالمساجد فهو شديدُ الحبّ لها والملازمة للجماعة فيها، فقَلبُهُ مع الصلاة وفِكرُه مشغولٌ بها، يتحيَّنُ وقتَها، ويترقَّبُ نداءَها، ويتحرَّى إقامتَها، لا يكادُ ينتهي من صلاةٍ حتى يشتاقَ للأخرى؛ إنَّه الأُنسُ باللّه.

     أمَّا الحبُّ في اللهِ فهو من أوثقِ عُرى الإيمان، وهو عملٌ قلبيٌّ يطَّلع عليه من يعلمُ خائنةَ الأعينِ وما تُخفي الصُّدورُ، فهو سبحانه أعلم بمن أحبَّ للهِ ووَالَى في الله، اجتمع المسلمان على المحبَّة والمودّة لله وفي الله، لم يجمَعْهُمَا عرَضٌ من الدُّنيا زائلٌ، ولا طَمَعٌ في مالٍ ولا جاهٍ، بل هو الصدقُ والإخلاص.

     أمَّا العفيفُ الوَرِعُ فمع اجتماع أسباب المعصية وتوفُّرِ دواعيها وقُدرته على الحرام في حال الخَلوَةِ والأمان إلَّا أنَّ خوفَ الله في قلبه أعظمُ من هذه الفتنة وأقوى من هذا البلاء.

     والـمنفِقُ المتصدّقُ بالغَ فِي الإخلاصِ وأبعَدَ عن الرياء؛ يبتغي بذلك وجه الله.

     والأخير رقيقُ القلب حاضرُ الإيمان، إنَّه المختَلِي بدمعَتِهِ، لم يُراءِ بها، إنَّ الإنسان ليقدِرُ على النشيجِ (الصوت المتردَّد في الصدر) والصراخِ أمام النَّاس مجاراةً لهم أو تأثُّرًا بهم، لكن من الذي يذكُرُ الله في الخَلوة فتَفيضُ عينُه ويَنهمر دَمعُهُ خشيةً وهيبةً ورجاءً وخوفًا ومحبّةً وشوقًا؟!؛ إنَّه الإيمانُ واليقينُ.
     هذه الْمُثُلُ العالية والمواقفُ الجليلةُ ليست سهلة المنال، إنَّها مواقفُ يُؤثِر فيها المؤمنُ رضا الله على رضا غيره وإن عَظُمَت فيه المحَنُ، وثقُلَتْ فيه المُؤَنُ، وضعُفَ عنه الطَّولُ والبَدَنُ، وكم من غافلٍ يظنُّها يسيرةً هيّنةً وما دَرَى أنَّه لا يُوَفَّقُ لها إلا المخلَصون، وقد يرى الإنسان نفسَه قادرًا على الصُّمود لكنه إذا فُتِنَ افتَتَن، وإذا ابتُلي فشَلَ.

     وإِنَّ الذي يبغي النجاةَ والفلاحَ والعصمة والنجاحَ لَيَتَعَاهَدُ إيمانَهُ حتى يتوصَّل إلى الكمالات، ويمتلئَ قلبُهُ بالإيمان واليقينِ والخوف من ربّ العالمين والخشيةِ والإخلاص، عندها تفيضُ النَّفسُ بالأعمال الصَّالحة وتَنزَجِرُ عن الرَّذائل وتَثبُتُ عند الفِتَن، وهذا لا يحصُلُ مع التواني والكسل، فلابدَّ من تفقُّدِ النَّفسِ ومجاهَدَتِها، والله تعالى يقول: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾.

وكتبه الشيخ مروان عبد الرحمن كصك

.

Sign up for our email list!

Sign up to get the monthly Insight E-News, Programs & Events Announcements, as well as Ramadan and Eid information delivered to your inbox.

Accessibility Toolbar