شرح حديث إنما الأعمال بالنيات[1]
مقدمة حول هذه السلسلة
لعله لم يحظ حديث من الأحاديث النبوية بالعناية والاهتمام، قدر ما حظي به حديث (الأعمال بالنيات)، حيث أولاه علماء الإسلام – على اختلاف تخصصاتهم – أعظم الاهتمام، بل وقدمه بعضهم ليكون أول حديث يُثبتونه في كتبهم؛ كما صنع الإمام البخاري في صحيحه، والإمام النووي في كتابيه (رياض الصالحين)، و (الأربعين النووية).
كذلك، أولى شراح الحديث هذا الحديث عنايةً خاصة، فنجد الحافظ ابن رجب يسهب في شرحه في (جامع العلوم والحكم) بما يزيد على الأربعين صفحة، في دراسة شاملة لإسناد الحديث ومتنه، وما يستخلص منه من الفوائد والأحكام.
كما نجد علماء الفقه الإسلامي والقواعد الفقهية، يبنون على هذا الحديث قاعدتهم الأولى من القواعد الخمس الكبرى؛ ألا وهي قاعدة (الأمور بمقاصدها)، والتي أفاضوا في توضيحها والبناء عليها، حتى بلغ مجموع ما كتبوه في ذلك مجلدات كاملة.
ورغم أن العلماء والأئمة السابقين، قد أجادوا وأفادوا في شرح هذا الحديث، بحيث قد يرى البعض أنهم لم يدعوا مجالا للزيادة على ما كتبوه، إلا أني، ومن خلال اطلاعي على مجمل ما كتبوه، قد وجدت أن هذا الحديث ما يزال بحاجة إلى شرح معاصر، يلبي المطالب الآتية:
- السهولة في العبارة، وتبسيطها، بحيث يستوعبها غير المختصين في العلوم الشرعية؛ فإن جزالة العبارة لدى كثير من الشراح، واستخدامهم للمصطلحات العلمية التي لا يعرف معانيها ومدلولاتها سوى أهلها، وعدم توضيح المقدمات التي تنبني عليها الأحكام التي يوردونها، سواء في تطرقهم إلى دراسة إسناد هذا الحديث أو شرحهم لمتنه، كل ذلك يجعل من العسير على عامة الناس الاستفادة من هذه الشروح والكتابات، إلا من خلال تبسيطها لهم على أيدي المختصين.
ولذلك عمدت إلى شرح هذا الحديث شرحا سهل العبارة، بسيط الأسلوب، مع العناية بشرح المقدمات العلمية التي قد يتوقف عليها فهم جوانب مهمة مما يتعلق بهذا الحديث.
إضافة إلى ذلك، فقد رصّعت هذا الشرح ببعض الصور والأشكال التوضيحية التي تعين على فهم المطلوب، خاصة فيما يتعلق بدراسة إسناد الحديث.
- المعاصرة ومراعاة الواقع في شرح الحديث وما يترتب عليه من الفوائد والأحكام: وذلك أن معظم شروح هذا الحديث قد مضى عليها مئات من السنين، تغير واقع المسلمين فيها تغيرا كبيرا، كما تنوعت طبائع الحياة ومتطلباتها بتنوع المجتمعات المسلمة في البلدان المختلفة، مما يجعل بعض ما أورده علماؤنا السابقون غير ذي فائدة في واقعنا المعاصر، كما أن هنالك العديد من القضايا والمسائل التي لم يتطرقوا إليها بحكم عدم الحاجة لها، أو عدم وجودها أصلا، في زمانهم.
كما أن بعض من شرحوا الحديث من المعاصرين، قد اقتصروا على ما أورده علماؤنا السابقون، أو تعرضوا للمسائل والقضايا المعاصرة وفق ما قرره السابقون من الفتاوى والأحكام، التي تتناسب مع عصرهم لا مع عصرنا.
ولذلك فإني قد حرصت في شرح هذا الحديث أن أراعي طبيعة الواقع المعاصر، ومتطلبات الحياة في زمننا الحاضر، سواء على مستوى الأمثلة التي أوردها، أو على مستوى القضايا التي أتطرق إلى بحثها وبيان أحكامها.
وسيجد القارئ ذلك واضحا، خاصة فيما يتعلق بأحكام الهجرة، والإقامة في بلاد غير المسلمين، وهي من أهم القضايا التي تهم المجتمعات المسلمة في الدول الغربية.
على أن هذا لا يعني – بحالٍ – انفصال هذا الشرح عن التراث العظيم الذي تركه لنا الأئمة السابقون، بل إني قد حرصت إلى الرجوع إلى ما كتبوه وقرروه وأصلوه، وسرت على نهجهم في بحث المسائل وتقرير الأحكام، مع مراعاة ما قد يترتب على تغيّر الواقع وطبيعة الحياة من اختلاف في الفتاوى والأحكام.
- التكامل في دراسة الحديث من جميع الجوانب، بحيث تتم دراسة الحديث من حيث الصناعة الحديثية، والفقهية، والأخلاقية والتربوية، والسياسية والاجتماعية، إلى غير ذلك من الجوانب التي لهذا الحديث تأثير فيها وفي أحكامها، خاصة أن معظم شروح الحديث السابقة إنما تقتصر في دراستها لهذا الحديث على ما يتعلق بالدراسة الإسنادية والحديثية، إضافة إلى ما يترتب عليه من الأحكام الفقهية، وبعض الجوانب الإيمانية والأخلاقية، فيما يغفل معظمها تناول القضايا التربوية والسياسية والاجتماعية ونحوها من المجالات التي لهذا الحديث مدخل عظيم فيها.
ومن هنا فقد تضمنت هذه الكتابة شرحا تحليليا وافيا، سواء من الناحية الإسنادية؛ من خلال دراسة سلسلة رواة الحديث، ومدى موثوقيتهم، وتخريج الحديث من أمهات كتب الحديث المعتمدة، والحكم عليه صحة وضعفا، أو من حيث المتن، من خلال شرح غريب الحديث، ومختلفه ومشكله، وأسباب وروده، إضافة إلى بيان ما يتضمنه من الفوائد والأحكام الشرعية والأخلاقية والتربوية، وما يتعلق به م القضايا السياسية والاجتماعية، ونحوها من المجالات التي تمسّ حياة المسلم المعاصر، وخاصة ما يتعلق بقضايا المجتمعات المسلمة في الغرب.
وسأقسم هذا الشرح إلى ثلاثة مباحث رئيسية:
المبحث الأول: دراسة إسناد الحديث، وتخريجه، وبيان حاله من صحةً أو ضعفاً:
وذلك من خلال:
- دراسة إسناد الحديث والترجمة لرواته.
- تخريج الحديث، وبيان درجته من حيث الصحة والضعف.
المبحث الثاني: دراسة متن الحديث وما يتعلق به:
وذلك من خلال:
- بيان أهمية الحديث، ومنزلته بين سائر الأحاديث النبوية.
- بيان سبب ورود الحديث، وخلاف العلماء حول ذلك.
- شرح مفردات الحديث وبيان معاني غريبه.
المبحث الثالث: ما يتضمنه الحديث من الأحكام الفقهية والفوائد التربوية:
وذلك من خلال:
- بيان أثر الإخلاص في اعتبار الأعمال، وأصناف العمل من حيث النية أو النيات المتعقلة به.
- أثر الحديث في الأحكام الفقهية المختلفة.
- الهجرة: أنواعها وأحكامها في الشريعة الإسلامية.
- أهم الآثار الأخلاقية والتربوية لهذا الحديث.
- ما يترتب على هذا الحديث من آثار في القضايا السياسية والاجتماعية.
هذا وقد اعتمدت في شرح هذا الحديث بشكل أساسي على (جامع العلوم والحكم) لابن رجب، و (التعيين في شرح الأربعين) لنجم الدين الطوفي، و (شرح رياض الصالحين) للشيخ ابن عثيمين، مع الرجوع – أيضا – إلى أمهات كتب شروح الحديث، مثل: (فتح الباري) لابن حجر، و (شرح صحيح مسلم) للنووي، إضافة إلى مراجع (علوم الحديث) وعلم (المصطلح)، وكتب (غريب الحديث)، وأمهات كتب الفقه والقواعد الفقهية، وغيرها من المصادر والمراجع، المثبتة في آخر هذا الشرح.
هذا وأسأل الله أن يجعل مقصودي من هذا الشرح خالصا لوجهه الكريم، وأن يكتب به النفع والفائدة، والأجر والثواب، لي ولجميع من ينتفع به من إخواني المسلمين، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير.
[1] أصل هذا الشرح مجموعة دروس في شرح كتاب (رياض الصالحين) للإمام النووي، حيث كان حديث (الأعمال بالنيات) أول حديث أقوم بشرحه، وقد أفضت في شرح الحديث حتى استغرق عدة دروس، وقد رأيت – تتميما للنفع والفائدة إن شاء الله – أن أفرد شرح هذا الحديث في هذه السلسلة، بحيث إذا اكتملت جمعتها معا في كتاب كامل في شرح هذا الحديث بإذن الله تعالى.
الشيخ الدكتور هيثم زماعرة