الحمد لله آتى عباده من كلّ ما سألوه, ولو عدّوا نعمَه لا يحصوها. والحمد لله بعث محمداً رسوله بالهداية ودين الحق ورحمة للعالمين. وله الحمد فهو الرحمن الرحيم, أسبغ نعمه ظاهرة وباطنة.
وَرَدَ في الحديث القدسي أنّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقولُ يَومَ القِيامَةِ: يا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قالَ: يا رَبِّ، كيفَ أعُودُكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟! قالَ: أَمَا عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ يا ابْنَ آدَمَ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قالَ: يا رَبِّ، وكيفَ أُطْعِمُكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟! قالَ: أَمَا عَلِمْتَ أنَّه اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لوْ أطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذلكَ عِندِي، يا ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ، فَلَمْ تَسْقِنِي، قالَ: يا رَبِّ، كيفَ أسْقِيكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟! قالَ: اسْتَسْقاكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أمَا إنَّكَ لو سَقَيْتَهُ وجَدْتَ ذلكَ عِندِي.
يظهر في هذا الحديث أنّ لله صِلاتٌ مع الخلق, لو تعقّبها العبد لوجد الله معه في كل الأوقات والأحيان. فمن بحث عن رحمة الله وفضله وقُربه وجدَه في زيارة مريضٍ وإطعام جائعٍ وريّ عطشان. فهل يجد العبد منفذاً إلى الله غير هذه المنافذ؟ أو هل يجد قرباً لله مباشراً دون وسيط؟
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد, فأكثروا الدعاء. هنا يقترب العبد من الرب, فكيف للعبد أن يقرِّب الرب منه؟
ورد في حديثٍ قدسيٍ صحيحٍ رواه البخاري ومسلم وغيرهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم.
وقد وُرِدَ في الأثر أن الله بشّر موسى ومن بعده فقال: يا موسى, أنا جليس من ذكرني.
ورَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي بَاب الذّكر فِي شعب الإيمان من جِهَة الْحُسَيْن ابْن حَفْص عَن سُفْيَان عَن عَطاء بن أبي مَرْوَان قَالَ: حَدثنِي أُبي بن كَعْب قَالَ, قَالَ: مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يَا رب أقريب أنت فأناجيك اَوْ بعيد فأناديك؟ فَقيل لَهُ: يَا مُوسَى انا جليس من يذكرنِي.
في هذا الكلام الإلهي لطفٌ ورحمة وتودُّد لعبده الذاكر. فالله تعالى يعلمنا أنه يجالس بمعنى يؤانس من يذكره خالصا من قلبه تقرباً إلى جنابه القدسي ويكون بمعيته محفوفاً بنظر عنايته فيشعر الذاكر بالأنس به وبحضوره معه يغمره بأنواره وسكينته فيتنزّل على قلبه السلام والطمأنينة. وهذه من ثمرات الذكر وبركاته ونفحاته.
*أنا جليس من ذكرني*:
يستهلّ اللهُ العبارةَ بضمير المتكلم المنفصل “أنا”, ودلالة الأمر تنبيهٌ لعظمة المتكلًم وجلالته وقدسيّته.
جاء في المعجم الوسيط: “هو جليس نفسه: إذا اعتزل الناس”. فالله جليس من ذكره, يعني أن الله اعتزل كلّ الجلسات من أجل جلسة مع عبدٍ يذكُره.
ولفظ “جليس” على وزن فعيل, فيه دلالة على المبالغة في الجلوس, فالله جليس عبده لا يملّ حتى يملّ العبد.
و”من” هنا بمعنى الذي, وتقدير الجملة: أنا جليس الذي يذكرني. ومن دلالات الفعل المضارع الاستمرارية, فما دام الذكر مستمراً, فإنّ الله جليس ذاكره.
وروى البيهقي بِسَنَدِهِ الى أبي أسامة قَالَ: قلت لمُحَمد بن النَّضر أما تستوحش من طول الْجُلُوس فِي الْبَيْت؟ فَقَالَ: مَا لي استوحش وَهُوَ يَقُول انا جليس من ذَكرنِي.
والجلوس ليس مجرّد جلوس صامت, بل هو مشاركةٌ في الحدث. ودليل الأمر عائدٌ إلى قوله تعالى في الآية الثانية والخمسين بعد المئة من سورة البقرة: “فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون”.
ولا تنتهي القصة بعملٍ شرطيٍّ (ذكر الله مقابل ذكر العبد) ولكنّ الأمر يمتدّ إلى ما يُظهِرُ محبة الله لعباده وتودّده إليهم, فلقد قال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز ومن باب الحثّ على إطالة الأُنس في الجلسة, قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً.
يورِدُ الطبري في تفسير هذه الآية: اذكروا الله بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم ذكرًا كثيرًا، فلا تخلو أبدانكم من ذكره في حال من أحوال طاقتكم ذلك. إذن, فالله سبحانه لا يريد لمجلسٍ مع عبده أن يزول وينتهي. لذلك أعقب هذه الآيات بأخرى مُغرياتٍ لدوام الذكر وفيها الجزاء والثواب العظيم, يقول: هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما.
فمن لقاءٍ بوسيلة المرضى والجائعين والعطشى, إلى لقاءٍ من طرفٍ واحد, ثم جلسة يحضرها صاحب العزة والجلالة, واختتام برحمةٍ هي نهاية سبيل الذاكرين السالكين والقاصدين مجالسة الله. هذه هي العطايا التي يهبها الله لعباده, فيزيل فيها الغم ويذهب بها الحزن, ويُرضي بها المؤمنين, ويرضى الله عنهم.
بلال شرف الدين