ذ وجوه
تبارك الذي نزّل على عبده قرآناً عربياً غير ذي عِوج، كتاباً فُصِّلت آياته لقومٍ يعلمون.
أطلق لغويو العربية القدماء مصطلح “المشترك اللفظي” على كلّ أنواع اللفظ الذي يدل على أكثر من معنى، سواء تقاربت معانيه أو اختلفت. ويعرّفه الزبيدي في مقدمة “تاج العروس” على أنّه اللفظ الواحد الدال على معنيَيْن مختلفين فأكثر. لنأخذ مثلاً -ليس حصراً- كلمة “أم”.
من الآيات القرآنية التي وردت فيها هذه اللفظة هي: “فرجعناك إلى أمّك” (سورة طه، الآية 40) – “هُنَّ أمّ الكتاب” (سورة آل عمران، الآية 7) – “فأمّه هاوية” (سورة القارعة، الآية 9). تكرّرت كلمة “أم” ثلاث مرات في هذه الآيات، واختلف كلّ معنى عن الآخر. ففي الأولى جاءت الكلمة بمعنى “والدة”، والثانية أخذت معنى “أصل”، أما الأخيرة فكان معناها “المرجع والمستقر”.
وعلى سبيل المثال لا الحصر أيضاً، نورِدُ لفظةً أخرى اتخذت المنحى نفسه. ذُكِرت لفظة “حَرْث” في الآيات الثلاث التالية: “تثير الأرض ولا تسقي الحرث” (سورة البقرة، الآية 71) – “والخيل المسوّمة والأنعام والحرث” (سورة آل عمران، الآية 14) – “من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه” (سورة الشورى، الآية 20). وكانت معاني هذه اللفظة الأرض المهيأة للزراعة، والزرع والنبات، والأجر والجزاء توالياً.
مثل هذه الكلمات الكثير والكثير، وقد عدّها بعض الباحثين فكانت بالمئات.
من الأمور التي تؤدي إلى تعدّد المعنى: اختلاف السياق، والاختلاف في التعدّي واللزوم، والاختلاف اللهجي. فماذا يعني ذلك؟!
في تعدّد المعنى نتيجة اختلاف السياق اللغوي يظهر أنه يدلّ على معانٍ ثانوية أو جزئية مستمدة من المعنى الأساسي الذي يدور حوله. فكلمة “الباطل” تطلق في معناها الأصلي على كل ما هو نقيض للحق وما لا ثبات له عند الفحص، على حدِّ قول الأصفهاني. لكن هذه اللفظة اتخذت شكلاً معنوياً آخر في القرآن فجاءت بمعنى التزوير والتحريف في سورة البقرة “ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل” (الآية 188)، بينما اتخذت معنى الكفر والضلال في سورة الأنفال “ليحق الله الحق ويبطل الباطل” (الآية 8).
أما لفظة “الفاحشة” فتدلّ على ما عَظُمَ قبحه من الأفعال والأقوال، استناداً لمفردات الأصفهاني. كما أن “ابن فارس” يذكر في مقاييسه: “الفاء والحاء والشين: كلمة تدل على قبح في شيء وشناعة”. ويتفرّع عن هذا المعنى عدّة معانٍ قرآنية يحدّدها السياق اللغوي. فهي تعني اللواط في سورة النمل “ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون” (الآية 54)، وتعني الزنى في سورة النساء “واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم” (الآية 15)، أما في سورة آل عمران فتعني مطلق الفعل القبيح “والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم” (الآية 135). فسياق الكلام والخطاب المرسوم هو الذي أوجد معانٍ مختلفة للفظة واحدة تتناسب مع النص والتصوير.
وتلعب نوعية الفعل من حيث اللزوم (يلزم الفعل فاعله ولا يتعدَّى إلى مفعول به) والتعدية (يتعدّى الفعل إلى مفعول به أو أكثر) دوراً فاعلاً في تعدّد المعنى للكلمة الواحدة. فقد استُخدِم الفعل “رجع” لازماً في قوله تعالى من سورة التوبة: “ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم” (الآية ١٢٢)، ومتعدّياً في قوله تعالى من السورة نفسها: “فإن رجعك الله إلى طائفة منهم” (الآية ٨٣). وممّا يُظهِرُ تبدّل المعنى نتيجة اللزوم والتعدية هو تفسير الأول بالفعل “عاد”، والثاني بالفعل “ردّ”. كما يصوّر استخدام الفعل “أصلح” الأمر نفسه. ففي سورة الأعراف يقول الله تعالى: “فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم” (الآية ٣٥)، جاء الفعل أصلح بمعنى أطاع. بينما جاء بمعنى “أزال الفساد” في سورة الأنبياء: “ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه” (الآية ٩٠).
من الألفاظ الذي تعدّد معناها نتيجة استخدامها في معنى يختلف عما تستعمله فيه قريش هي لفظة ” وراء”. يقول تعالى في سورة هود: “فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب” (الآية ٧١). ولقد ذكر ابن عباس رضي الله عنه أن المراد بلفظة وراء هو ولد الولد. والأمر عينه ينطبق على الفعل “ييأس” في قوله تعالى: “إنه لا ييأس من رَوْح الله إلا القوم الكافرون” (سورة يوسف، الآية ٨٧)، وقوله تعالى: “أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا” (سورة الرعد، الآية ٣١). فالأول من القنوط -وهي لغة قريش والعرب بشكل عام-، والثاني من العلم -وهي لغة هوازن-؛ وذلك كما جاء في “الجامع لأحكام القرآن” للإمام القرطبي.
أورد الفقيه “بدر الدين الزركشي” في كتابه “البرهان في علوم القرآن”: من أنواع معجزات القرآن حيث كانت الكلمة الواحدة تنصرف إلى عشرين وجهاً، أو أكثر أو أقل، ولا يوجد ذلك في كلام البشر”. فما الغاية من هذا الاشتراك اللفظي في القرآن؟
يذكر الدكتور “أحمد مختار عمر” في أحد أبحاثه غايات عديدة ولعلّ أبرزها أن في استخدام المشترك اللفظي تحقيق لنوع من الموسيقى الداخلية، والملاءمة اللفظية الناتجة عن استخدام اللفظ بمعنَيَيْن في آيتَيْن متتاليتَيْن كقوله تعالى في سورة النور: “يكاد سنا برقه يخطف بالأبصار. يقلّب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار”. أو في آية واحدة كما في سورة الروم: ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة”.
جاء على لسان السيوطي في كتابه الإتقان أن سيدنا “علي بن أبي طالب” -كرّم الله وجهه- قال: “القرآنُ حمَّالٌ ذو وجوه”. فعلّق “ابن الأثير” على هذا بالقول: أي ذو معانٍ مختلفة. ولعلّ من جميل القول ما كتبه “ابن عاشور” في “التحرير والتنوير”: “وإنك لتمرُّ بالآية الواحدة ، فتتأمَّلها وتتدبَّرها، فتنهال عليك معانٍ كثيرة، يسمح بها التركيب على اختلاف الاعتبارات في أساليب الاستعمال العربي، وقد تتكاثر عليك! فلا تكُ من كثرتها في حَصر، ولا تجعل الحمل على بعضها منافياً للحمل على البعض الآخر إن كان التركيب سمْحاً بذلك”.
بلال شرف الدين