الجموع الجزء 2

الحمد لله خلق كلّ شيء وجعل له سببا وأنزل على نبيّه قرآنا فليس مثله كتابا وعلّم الإنسان البيان وجعل من عِلمِه سحرا.

تتميّز اللغة العربية باعتمادها على نظام الاشتقاق في توليد الألفاظ، وتتنوّع صِيَغ الجمع للكثير من الأسماء المشتقة من المادة اللغوية الواحدة تجنّباً لأي التباس بعضها ببعض في المعنى.

الكلام هنا لا يشتمل على الجموع القرآنية التي تنتمي إلى جذر واحد وتختلف مفرداتها، لأننا نوجّه البوصلة إلى الشكل المفرد الواحد الذي يتّخذ عدة جموع. فعلى سبيل المثال، لا تدخل كلمات “ظُلَل” و “ظِلال” ضمن اهتمامنا الآن، لأن مفرد الأولى “ظُلّة” ومفرد الثانية “ظِل”.

استُعمِل لفظ “الجمع” منذ بدايات الدرس النحوي؛ إذ نجده في مواضع كثيرة من كتاب سيبويه، واستعمل آخرون -كالزمخشري وابن معطي- لفظ “المجموع”. وبقي التداول الأكبر للفظ “الجمع” على مرّ العصور.

ويُعرِّفُ “الرمّاني” الجمعَ فيقول: “الجمع صـيغة مبنيّة من الواحد للدلالة على العدد الزائد على الاثنين”. ولأن العربية لغة مطواعة، فقد كان جمع الجمع باباً للمبالغة في التعبير عن الجمع والتعبير عن الزيادة.

في القرآن الكريم وردت كلمة “نِسْوة” مرتين في قصة سيدنا يوسف عليه السلام، قال تعالى: “وقال نسوة في المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه…” (يوسف 30)، و “قال ارجع إلى ربّك فاسأله ما بال النِسْوة اللّاتي قطّعن أيديَهن…” (يوسف 50). أما كلمة “نساء” فقد وردت سبعاً وخمسين مرّة، منها قوله تعالى: “يذبِّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم” (البقرة 49)، “فاعتزلوا النساء في المحيض” (البقرة 222), “زُيِّن للناس حُبّ الشهوات من النساء” (آل عمران 14)، “وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين” (آل عمران 42)، “يا نساء النبي” (الأحزاب 30-32)، “قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدنين عليهنّ من جلابيبهن” (الأحزاب 59)…

الذي يتبيّن من مراجعة كتب التفسير واللغة أن النسوة والنساء جمع “المرأة” من غير لفظها (في معجم تاج العروس: نسو). ومَن يُمْعِن البحث والتدقيق يتبيَّن له أنّ لفظ “النسوة” هو لفظ الجمع، أما لفظ “النساء” فهو جمع “النسوة”. وقد نقل ابن منظور عن ابن سيده قوله: “إنّ النساء جمع نسوة إذا كَثُرن، لذلك قال سيبويه إن النسبة إلى نساء: نِسْوي (لسان العرب)”.

والاستعمال القرآني يُصادق على كلام “ابن سيده”، فعدد النساء في قصّة يوسف كان قليلاً ولذلك استُخدِمت لفظة “نسوة”. أما لفظ “النساء”، فقد جاء عاماً ومطلقاً وشاملاً للجنس تارةً، وللزوجات تارة أخرى، بل جاء شاملاً للبنات اللاتي عبّر عنهن بالنساء في آية (البقرة 49) على سبيل المجاز المرسل باعتبار ما سيكون كما جاء في تفسير القرطبي. كما أن الاستعمال في الحديث النبوي قد جاء شاهداً لذلك. فلم يرد لفظ “النسوة” في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث إلا للدلالة على العدد القليل, مثل: “أتيت النبي في نسوة نبايعه…”، ومثل: “مرّ رسول الله بنسوة فسلّم علينا”، ومثل: “فدعا عمر نسوة من نساء الجاهلية”، ومثل: “وكان له يومئذ تسعة نسوة…” (المعجم المفهرس).

هكذا جاء التعبير في القرآن بالجمع مقابل جمع الجمع، فكيف جاء بالجمع المذكر السالم مقابل جمع التكسير؟

في تعريف جمع المذكر السالم، هو ما جُمِع بزيادة واو ونون في حالة الرفع، وياء ونون في حالتَي النصب والجر، نحو: (عاد المسافرون) و (أكرمت المجتهدين) و (وأحسنت إلى العاملين). أما جمع التكسير فهو ما دلَّ على الجمع بتغييرٍ في بناءِ مفردهِ، ولهذا التغيير ثلاثة أشكال: تغيير بالزيادة، مثل: طفل أطفال، وتغيير بالنقصان، مثل: كِتاب كُتُب، وتغيير الحركات، مثل: أسد أُسْد.

ورد لفظ “غرفات” مرة واحدة في القرآن الكريم  قال تعالى في سورة سبأ: “وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تُقرِّبكم عندنا زُلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون” (سبأ 37). أما لفظ “غُرَفْ” فجاءت: “لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار …” (الزمر 20)، “الذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا…” (العنكبوت 58).

وقعت آية سبأ في سياق يتلاءم مع معنى القلة، ولذا استخدم فيه جمع المؤنث السالم. ووجه الملاءمة مع القلة أنّ الآية تتحدث عن الذين جمعوا بين ثلاثة أشياء: هي الأولاد والأموال والعمل الصالح، ولا شك أن هؤلاء قِلّة بالنسبة لسائر المؤمنين، خاصة إذا علمنا أن المال والرجال يؤديان إلى الغرور والبطر. وفي تفسير القرطبي أن المؤمن إذا كان غنياً تقياً آتاه الله أجره مرتين بقوله تعالى: “فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون” *(سبأ 37). أما سائر الآيات وهي تلك اشتملت على لفظ “غرف” فهي تتحدث عن مجرد الاتصاف بالعمل الصالح أو تقوى الله، ولا شك أن المتّصفين بذلك أكثر بكثير من الذين يجمعون النفوذ والغنى، فناسب ذلك استخدام جمع التكسير الدال على الكثرة.

سبحان من علّم الإنسان العلم وما آتاه منه إلا قليلا، وجعل لكل شيء حجّةً ودليلا، فما لامرئ أن يأتي له بمثيلا.

بلال شرف الدين

About The Author

Accessibility Toolbar