الجموع
الحمد لله الذي أنزل على عبده قرآناً غير ذي عوج، منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات.
تتميّز اللغة العربية باعتمادها على نظام الاشتقاق في توليد الألفاظ، وتتنوّع صِيَغ الجمع للكثير من الأسماء المشتقة من المادة اللغوية الواحدة تجنّباً لأي التباس بعضها ببعض في المعنى.
ولقد تعدّدت مذاهب الباحثين في تفسير ظاهرة التعدد الهائل في صيغ جموع التكسير في اللغة العربية، وهذا لا نجد له مثيلاً في اللغات الأخرى. فذهب البعض إلى أنّ تعدد جموع التكسير ليس إلّا شكلاً من أشكال الفوضى في هذه اللغة، وذهب بالمقابل من قال أن ذلك يرجع إلى تنوّع اللهجات العربية. فيما يعتبر آخرون أنّ الأسباب الآنفة الذكر لا يُؤخذُ بها، بل لا بدّ من التفتيش وراء هذا التعدد عن أسباب فنية استوجبت اختيار الجمع المعيّن في الموقع المعيّن دون غيره، خاصة إذا كان الكلام يتعلّق بنصٍّ استجمع كلّ مقوّمات البلاغة وبلغ الذروة في إعجازه الفني كالقرآن الكريم.
وقد لفتت هذه الظاهرة نظر القدماء المفسّرين قبل أن تلفت نظر المعاصرين، وتناولها في ملاحظات قدامى المفسرين للقرآن وبعض المؤلفين في علوم القرآن مثل الزركشي في البرهان، والسيوطي في الإتقان. كما نظر فيها حديثاً العديد من أهل التفسير.
مما ينبغي الإشارة إليه أنّ الكلام الآن لا يشتمل على الجموع القرآنية التي تنتمي إلى جذر واحد وتختلف مفرداتها، لأننا نوجّه البوصلة إلى الشكل المفرد الواحد الذي يتّخذ عدة جموع. فعلى سبيل المثال، لا تدخل كلمات “أولاد” و “وِلْدان” ضمن اهتمامنا الآن، لأن مفرد الأولى “ولد” ومفرد الثانية “وليد”.
في القرآن الكريم وردت كلمة “ألوف” مرة واحدة في قوله تعالى: “ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت” (البقرة ٢٤٣)، ووردت كلمة آلاف مرتين هما: “أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة” (آل عمران ١٢٤) و “يمددكم ربّكم بخمسة آلاف من الملائكة” (آل عمران ١٢٥).
والفرق بين الاستعمالين أن القرآن استخدم لفظ “ألوف” عند إرادة الكثرة باعتبار أنّ وزن “ألوف” هو “فعول” وهو وزن من أوزان جموع الكثرة. واستخدم عند إرادة القِلّة لفظ “آلاف” الذي جاء على وزن من أوزان جموع القلة. ودلالة الأمر أنّ الله تحدّى المشركين في خِضَمِّ المعركة، فساند المسلمين بقِلّةٍ من الملائكة واستخدم لفظاً يدلّ على القِلة رغم استطاعته استخدام لفظ آخر يدلّ على الكثرة.
كما وردت كلمة “ذكران” في القرآن الكريم مرتين في قوله تعالى: “أتأتون الذكران من العالمين” (الشعراء ١٦٥) وقوله: “أو يزوّجهم ذُكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيما” (الشورى ٥٠) ووردت كلمة “ذكور” مرتين كذلك في قوله تعالى: “هذه الأنعام خالصة لذكورنا” (الأنعام ١٣٩) وقوله: “يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء ويهب لمن يشاء الذكور” (الشورى ٤٩).
اول ما يلفت النظر في الجمع “ذُكران” أنه جاء على وزن قليل الاستخدام في القران الكريم، إذ لم يَرِد إلا أربع مرات في كلمات “ذُكران” و “رُكبان” و “رهبان” و “عميان”، في حين أن الجمع “ذكور” جاء على وزن شائع الاستعمال في القران الكريم (وَرَد إحدى وستّين مرة).
وهناك شيء ثانٍ يلفت النظر عند التنقيب في المجامع عن الفرق بين الجمعين هو قول كراع: “ليس في الكلام فعل يكسَّر على فُعول وفُعْلان الا الذَّكَر” كما جاء في “لسان العرب” و “تاج العروس”.
فوزن “فُعْلان” إذن يمكن أن يثير -في ذهن المتأمل- معنى الغرابة والنُدرة وقلة الحدوث بغض النظر عن اعتبار النحات له من جموع الكثرة.
ولا شك أن معاني الغرابة والندرة وقلة الحدوث تتناسب مع سياق الآيتين المشتملتين على لفظ “الذكران”، ففعل قوم لوط (آية الشعراء) امر يثير الغرابة والاستنكار، فضلاً عن قلة حدوثه لشذوذه ومجيئه على خلاف الأصل إذا ما قيس عليه. وكذلك فإن تزويج الذكور والإناث أمر غريب قليل الحدوث وبخاصة إذا علمنا أن أكثر المفسرين قالوا أن المراد به أن تلد المرأة ولداً ثم تلد بنتاً ثم تلد ولداً ثم بنتاً أو المراد به ولادة التوائم كما جاء في تفسير القرطبي والبحر المحيط. وعلى هذا يكون القران قد اتبع طريقة خاصة عن معنى القِلة باستخدامه جمعاً قليل الاستخدام. وهكذا كان التعبير بجمع القِلة في مقابل جمع الكثرة طريقاً من طرق عدّة للتعبير عن الجموع.
فسبحان من خلق كل شيء وقدّره تقديرا وجعل من كتابه معجزة تحدى بها من هم أهل الفصاحة والبيان في قوله جلّ وعلا: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيرا.
بلال شرف الدين