أولويات في رمضان
ويهلُّ علينا هلال رمضان من جديد، لعل الله يبلغنا القبول وقد بلغنا الوصول. ولا بد من تجديد النية مع كل ليلة، وتبييتها توكيداً، واستحضارها تثبيتاً. وإن لهذه الشهر غاية عند الله متمثلة بقوله: “كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” (البقرة: ١٨٣)، ألا وهي التحقق بمنهج التقوى، فتحفظ النفس عما حرم الله، وتُقَوِّيها على أمره. ولهذا التقوى وسائل ودلائل، يدلك الله عليها لتسلكها خير سلوك، وتكون لوجهه الكريم كالعبد المملوك، تصفو حياتك إذن وترقى، وللآخرة خير لك وأبقى.
أولوياتك في رمضان ثلاث، واحدة في الامتناع، وثنتان في الانتفاع. بادئ ذي بدء أحدثك عما يجب عليك الامتناع عنه، ولعلي أضرب مثلاً، ليكون أدعى للفهم، وأقرب للتطبيق. هبْ أن رجلاً اقتنى قربة ماء، يملأها في طريق سفره، تحفظ له الماء، وترويه من ظمأ الطريق حال حاجته، لكنه في غمرة تحضيره، وانشغاله بسفاسف أموره، خرق تلك القربة، وتجاهل حاجته إليها، ومنّى النفس بسلامة أحواله، وعدم حاجتها إلى ترقيعه، وملأها بالماء وهو يرى تساقط قطراته، ويحدث نفسه أن التسرب قليل شأنه، ولن ينفد الماء إلا وقد وصل غايته، أو حط مسيره في مراح يعيد فيه ملأ مائه، غير آبه لما تحمله الأيام، ولما يفجأ به الطريق.
ما هذا الرجل إلا كالعاصي، وما معاصيه إلا هذا التسريب الذي يكاد يودي بالماء كله، وما الماء إلا صالح عمله هنا وهناك، ولكن أنى له أن يفيد من هذا الماء إن لم يتداركه ويوقف هذا التسريب؛ فأولى أولويات رمضان أن توقف هذا التسرب؛ أن تمنع النفس عن الوقوع في المعاصي، وهذا بمثابة التوبة حقاً، وهو من أجل الأعمال وأهمها، ويشهد لهذا حديث النبي ﷺ، يقول: “التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ” (سنن ابن ماجه).
ثم إذا ما توقف التسريب بادر المرء بالفرائض من الأعمال، وأقامها خير قيام، ولعلي أضرب لهذا مثلاً كذلك، ولله “الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ” (الروم: ٢٧). هبْ أن والداً طلب من ولده كأس ماء، فغاب الولد ورجع بكأس مرصع بالجواهر، على طبق مذهَّبٍ فاخر، لكنه لم يملأ الكأس بالماء، بل أتى به فارغاً. ربما يسعد الوالد بمظهر الكأس والطبق معه، لكنه سيبادر ولده بالسؤال: أين الماء الذي طلبت؟ ربما يشكر له اهتمامه بظاهر الأمور، لكنه يوبخه حتماً على نسيان باطنها وأساسها، ألا وهو الماء. ولو أن الولد أتى بالماء بكأس متواضع من غير طبق، لكان الوالد سرَّ به، لأنه تمام طلبه، وحصول رغبته، لكن لن يتم سعده لعدم وجود الماء. أما الماء فهي الفرائض التي فرضها الله، وهي أحب ما يُتقرب به إلى الله، كما في الحديث القدسي: “وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِي بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ” (صحيح البخاري). ثاني أولويات رمضان، أن يبادر المرء بإتمام فرائضه وعدم تقديم عمل آخر عليها؛ فلا يصح أن يهرع المرء لإتمام صلاة التراويح وهو غافل عن فريضة العشاء أو فريضة الفجر! لا يستقيم هذا، فالتراويح سنة، ولها أجرها حتماً عند الله، لكن الله قد يعفو عن تقصير المرء في صلاة التراويح، لكنه لا شك يسائل عبده عن صلاة الفريضة، بل صلاته أول ما يُسأل عنه يوم القيامة، فلا بد من ضبط الميزان، وإعادة توجيه البوصلة نحو الاتجاه الصحيح، دونما إنكار لفضائل النوافل والسنن، لكن مع إنزالها مكانها الصحيح.
وثالث الأولويات في رمضان، الإكثار من السنن والنوافل وفق أقصى استطاعة، لأن فيها تمام الأجر، وعلو المقام، وحصول الرفقة مع الحبيب المصطفى ﷺ، بل هي ثمن القرب منه في الفردوس الموعود. ومثالها في مثالنا الآنف الذكر: الكأس المرصع بالجواهر، والطبق المذهَّب الفاخر، لكن مع ملأه بالماء؛ إذ لا يمكن للسنة أو النافلة أن تنزل محل الفريضة، كيف لا؟ والفريضة يُثاب فاعلها ويُعاقب تاركها، والنافلة يُثاب فاعلها ولا يُعاقب تاركها. وقد أثنى الله على صاحب النوافل بعد أداء الفرائض أيما ثناء، في الحديث القدسي: “وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَىْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ” (صحيح البخاري)، أي يغدو عبداً ربانياً يتحرك بنور الله في كل أحواله، ويا له من مقام! وقد ذهب بعض العلماء أن النافلة ربما تجبر النقص في الفريضة، لذلك فهي من الأهمية بمكان، وفيها لحب المصطفى ﷺ برهان.
هذه أولوياتنا في رمضان، نجدد التزامنا بها في كل عام، ونرجو من الله القبول والتوفيق في أدائها، والله يقبل العبد إن آب وعاد، بل يسبقه سبحانه في الإقبال والإنعام: “إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَىَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً” (صحيح البخاري).
وكتبه الشيخ جعفر حوى