في تفسير لفظة الزلزلة
الحمد لله بديع السموات والأرض، يخلق ما يشاء. يفصّل آياته لقوم يعلمون، وإذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون.
يقول المرزوقي في صدر كتابه “الأزمنة والأمكنة” وهو يتحدث عن عِظَمِ شأنِ القُرآنِ: اعلم أَنَّ الله تعالى عَظَّمَ شأنَ القرآن، وفَضَّلَ بيانَهُ بالنَّظمِ العجيبِ، والتأليف الرصيف على سائر الكلام، وإن وافقه في مبانيه، ومعانيه ثم أودعه من صنوف الحكم، وفنون الآداب والعذر، وجوامع الأحكام والسير، وطرائف الأمثال والعبر، ما لا يقف على كنهه ذوو القرائح الصافية، ولا في بعد فوائده أولو المعارف الوافية، وإن تلاحقت آلاتهم، وتوافقت أسباب التفهم والافهام فيهم.
وحين يُسمّي الله سورةً ويجعل من العنوانِ الكلمةَ الموضوع فذلك يدلّ على الدخول المباشر بالموضوع، دون أن يكون هناك غشاوة أو ضبابية تلفّ النص. أي كما يقول المثل الشامي: “المكتوب يُقرأ من عنوانه”.
والتعبير بلفظ “الزلزلة” يتناسب مع الموقف الكائن وقت البعث، من التحرك للأرض والاضطراب الناس في هذا المشهد، وتكرار الحركة في معناها يتناسب مع تكرار حروفها، فالتزلزل هو الاضطراب، وتكرير حروف لفظه تنبيه على تكرير معنى الزلل فيه، كما يقول الأصفهاني في المفردات في غريب القرآن.
《إذا زلزلت الأرض زلزالها》
من فوائد افتتاح الكلام بظرف الزمان (إذا) وامتداد الجُمل المُضاف إليها الظرف هو تضخيم مشهد وتعظيمه قبل الوصول إليه -أي قبل إعلان الخبر المسبوق بظرف الزمان-.
وتفسير المشهد أن الأرض حُرِّكَتْ تحريكاً شديداً حتى يُخيَّلُ للناس أنها خرجت من حيِّزها، لأن فعل زُلْزِل مأخوذ من الزلل وهو زَلقُ الرِّجْلَين، فلما عَنَوْا شدة الزلل ضاعفوا الفعل للدلالة بالتضعيف على شدة الفعل كما قالوا: كبكبهُ، أي كَبّه، كما جاء في التحرير والتنوير لابن عاشور.
وقد ذكر ابن جني في الخصائص أنّ كلمة زلزل على وزن فعلل، وهذه الصيغة فيها خاصية التكرار لحرفين، وهذا التكرار يحمل جرساً معيناً يوحي بالتكرار للمعنى، يقول: وذلك أنك تجد المصادر الرباعية المضعفة تأتي للتكرير، نحو الزعزعة، والقلقلة، والصلصلة، والقعقعة.
ذهب معظم العلماء والمفسرين إلى أن سبب بناء الفعل للمجهول (زُلْزِلَت) مراده الإخبار بالحدث وليس المراد تبيان الفاعل (الله).
ويمكن القول أن دلالة بناء الفعل للمجهول عائدةٌ إلى الطاعة المجبولة عليها كل الأشياء التي تنفّذ أمر ربّها، أي أن الله لا يزلزل الأرض بنفسه، بل يأمر الأرض بذلك فتكون هي الفاعل والمفعول به.
قال الزمخشري في معنى المصدر “زلزالها”: فإن قلت ما معنى زلزالها بالإضافة؟ قلت معناه زلزالها الذي تستوجبه في الحكمة ومشيئة الله، وهو الزلزال الشديد الذي ليس بعد، ونحوه قولك: أكرم التقيّ إكرامه، وأهان الفاسق إهانته، تريد: ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة أو زلزالها كله وجميع ما هو ممكن منه. ولذا فإن بنية المصدر “زلزالها” تتناسب مع هول الموقف، فهذا زلزال شديد ليس بعده زلزال، فنقل للذهن قوة الزلزلة التي تفوق مقدور احتمال البشر.
من الناحية الصوتية، فالجهر من صفات حرفَيْ “الزاي واللام”، وهو يعطي الحروف قوة ويحدث اهتزازاً عند النطق بهما. فتكون الأوتار الصوتية في حالة اهتزاز مسببة جهر الصوت الذي جاء متناغماً مع السياق العام لعنوان السورة وآياتها. فكأن هذا الاهتزاز هو تجسيدٌ وتصوير للزلزلة العظيمة.
يعرف علماء الصوت المحدثون الجهر بأنه اهتزاز الأوتار الصوتية عند النطق بالحرف، ويمكنك معرفة ذلك بوضع راحة يديك على أذنك مع نطق حرف الزاي مكررا فتسمع دويا ناتجا من اهتزاز الأوتار الصوتية، وهذا هو الحادث في الأمر من انقطاع للنفس مع اهتزاز للمكان الذي تولد فيه الزلزال.
ولو نظرنا إلى الصفات التي لا ضد لها ويتصف بها الحرفان (الزاي، واللام) وهما الصفير للزاي، والانحراف للام لنبين علاقة صفة الصفير والانحراف بالمعنى؛ فالصفير كما وصفه الطحان: “حدة الصوت كالصوت الخارج عن ضغط ثقب”، وعلل مكي تسميتها بذلك فقال: “وإنما سميت بحروف الصفير لصوت يخرج عند النطق بها يُشبه الصفير، فالصفير من علامات قوة الحرف“، ووصف سيبويه اللام بأنه حرف منحرف، وعلل القرطبي انحراف اللام فقال: “لأن اللام ينحرف فيه الصوت، وتتجافى ناحيتا مستدق اللسان عن اعتراضهما على الصوت من تينك الناحيتين ومما فويقهما“.
وحركة التاء في كلمة “زلزلتِ الأرض” جاءت لتناسب المشهد؛ فالأصل أن التاء ساكنة فهي تاء تأنيث مبنية على السكون، ولكن هنا بسبب التقاء الساكنين وهما حرف التاء وحرف اللام الساكنة من كلمة الأرض حُركت التاء بالكسر؛ فالعلاقة بين الصوت الذائب -الكسر- ودلالته على الحدث ظاهرة بارزة فكما حدث وكسرت التاء بسبب التقاء الساكنين ولم تبق على أصلها؛ كسرت الأرض بما حدث لها وأصابها من قوة الزلزال، وما نتج عنه من تشقق وتصدُّع وتغيَّرت عن الأصل الذي كانت عليه.
صدق الله القائل: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .
بلال شرف الدين