الحمد لله خالق الأرض والسماء، منزل الكتاب، ناصر المستضعفين وهازم الأحزاب.

وعد الله المؤمنين بالنصر. المؤمنون المخلصون لعقيدتهم وثباتهم عليها وجهادهم في سبيلها. فثمرة هذا الجهاد الطويل كما بيّن القرآن في سورة الصف “نصر من الله وفتح قريب”، وتمكين في الأرض واستخلاف لمن ثبت على البأساء والضرّاء، ويقابل هذا خذلان وانتكاس لأهل الباطل في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

وقد تضافرت ألفاظ عديدة في القرآن الكريم لتدل على أنّ النصر والتمكين للمؤمنين في الحياة الدنيا مترتبان على ما يبذله المؤمنون في سبيل عقيدتهم، وهذا الأمر يجعلنا نعد هذه الألفاظ مستعملة للدلالة على الثواب الدنيوي في جانب من جوانبه. ويأتي جذر: (ن ص ر) في مقدمة المواد اللغوية في هذه المجموعة من الألفاظ.

لهذا الجذر في اللغة دلالات حسية تلقى ظلالها على الاستعمال القرآني، ومن ذلك: نَصر المَطرُ أو الغَيْثُ الأرض: سقاها وغاثها، وَنُصَرَتِ الأرضُ: إذا مُطِرَت (كما يذكر الزمخشري في اساس البلاغة). وسُمِّيَ المطر نَصراً، كما سُمِّيَ: فَتْحا.والنّصر أيضاً: الرزق أو العطاء. وحكي أنَّ سائلاً وقف على قوم، فقال: انصروني، نصركم الله، يريد: اعطوني، أعطاكم الله. والنصر: التأييد والعون.

ومما لاشك فيه أَنّ العلاقة واضحة بين المعنى الحسي والدلالة المعنوية للنصر، وقد أدرك العربي عمق هذه العلاقة لأنّه يعرف أهمية الغيث في حياته الصحراوية الظامئة الصعبة.

والنصر – كما بيّن القرآن الكريم – يكون دنيوياً وأخروياً، فقد قال سبحانه وتعالى: {مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ ينصَرَهُ الله في الدنيا والآخرة فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السماء، ثمَّ لْيَقْطَعْ، فَلْيَنْظُرْ هل يُذْهِبَنَّ كيدُهُ ما يَغيظُ}، ويكون النصر في الدنيا بإعلاء كلمة الله وإظهار دينه، ويكون في الآخرة بإعلاء الدرجة والمنزلة في الجنة، قال تعالى: {إنا لنَنْصُرُ رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدّنيا ويَوْمَ يقومُ الأشهادُ}، والنصر في الدنيا قد يكون بالحجة وبأخذ الظالمين، ولهذا اللفظ في القرآن الكريم أربعة وجوه:

الأول: النصر بمعنى: المنع، قال تعالى: {ولا يُؤْخذُ منها عَدْلٌ ولا هُمْ يُنْصَرونَ}، ويعني: ولا هُم يمنعون من العذاب، ويقابل ذلك إثبات النصرة للمؤمنين، وهي النجاة من العذاب كما مر بنا في عرضنا المبسّط لألفاظ النجاة.

الثاني: النصر بمعنى: العون، ومن ذلك قوله تعالى: {يا أَيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم} فنصرة العبد لله هو نصرته لعباده والوقوف مع الحق وحابهة الباطل والقيام بحفظ حدوده ورعاية عهوده واعتناق أحكامه واجتناب مناهيه، ويترتب على هذا الجهد من العبد نصر الله وهو عونه لعبده، وكذلك قوله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ}. وذهب أبو هلال العسكري إلى أنَّ هناك فرقاً بين النصرة والإعانة، وذلك أَنَّ النصرة لا تكون إلا على المنازع المغالب والخصم المناوئ المشاغب، والإعانة تكون على ذلك وعلى غيره، يقول: أَعانه على من غالبه، ونازعه، ونصر عليه، واعانه على فقره: إذا اعطاه ما يعينه، وأعانه على الأحمال، ولا يقال: نصره على ذلك، فالإعانة عامة والنصرة خاصة.

وهذا الفرق الدلالي ليس مُطرداً، فقد ورد النصر بمعنى: طلب العطاء، ولكن يمكن القول: إنَّ القرآن خصص دلالة النصر في استعماله بأن تكون على الخصم، وهذا التخصيص يجعل اللفظ منصرفاً إلى عون الله للعبد وتقويته على الجهاد، ومما لاشك فيه أَنَّ النصر هنا غير مقيد بالغلبة الظاهرة لأن المغلوب إذا كان مستحقاً للثواب فهو المنصور والغالب إذا كان من أهل العقاب، فهو مخذول غير منصور، والغلبة على المؤمن لا تخرجه عن كونه المنصور لأنّه المحمود العاقبة.

الوجه الثالث: النصر بمعنى: الظفر، وذلك قوله: {وما النَّصرُ إلاّ منْ عِندِ اللهِ}، وقد خص القرآن النصر بأنه من عند الله لكي يكون توكلهم على الله لا على الملائكة الذين وعدهم الله بإمدادهم بها.

والوجه الرابع: النصر بمعنى: الانتقام، وذلك قوله: {ولو شاء الله لانتصر منهم}.

– وقد يعبر القرآن عن النصر بالروح، كما في قوله: {أولئك كَتَبَ في قُلوبهِمُ الإيمانَ وأيدهُمْ بروح منهُ}، فالروح ههنا هو: النصر والغلبة والإظهار والدولة، وقد يعبر عن ذلك بالريح، والروح والريح كلاهما يرجعان إلى معنى واحد، وقال – سبحانه –: {ولا تَنازَعوا فتَفْشَلوا وتَذهبَ ريحُكُمْ} أي: دولتكم واستظهاركم.

سبحانك اللهم وبحمدك، عزّ شأنك وجلّ قولك إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد…

بلال شرف الدين