الذِّكر والحذف
الحمد لله الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتّخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كلّ شيء فقدّره تقديرا.
إن موضوع المفردة في القرآن موضوع واسع متشعب الأطراف متعدد المناحي. ولا شك أن كل مفردة وضعت وضعاً فنياً مقصوداً في مكانها المناسب وليس إلقاءً عشوائياً دون غاية أو سبب.
قد يحذف في التعبير القرآني من الكلمة على النحو الآتي: “استطاعوا” و “اسطاعوا”، “تتنزّل” و “تنزّل”، “تتوفّاهم” و “توفّاهم”، “لم يكن” و “لم يك” وما إلى ذلك. وكل ذلك لغرض وليس اعتباطاً، فالتعبير القرآني تعبير فني مقصود، كل كلمة بل كل حرف إنما وضع لقصد أو غاية.
“اسطاعوا” و “استطاعوا”:
قال تعالى: “فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا” (الكهف 97).
الحديث هنا عن السد الذي صنعه ذو القرنين من زبر الحديد والنحاس المُذاب. والصعود على هذا السد أيسر وأسهل من إحداث ثقبٍ فيه لمرور الجيش. فتمّ الحذف من الحدث الخفيف اليسير (فما اسطاعوا أن يظهروه) بخلاف الفعل الصعب والشاق والطويل الذي يأخذ مدة أطول فنال صيغة لفظية أطول (وما استطاعوا له نقبا).
لما كان الصعود على السد يتطلب زمناً أقصر من إحداث النقب فيه، حُذِف من الفعل وقًصِّر منه ليجانس النطق الزمنَ الذي يتطلبه كل حدث.
“تنزّل” و “تتنزّل”:
قال تعالى: “هلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ // تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ” (الشعراء 221-222). “تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا” (القدر 4). “إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ” (فصلت 30).
التاء في آيَتَيْ الشعراء والقدر محذوفتين (تنزّل). أمّا في آية سورة فصلت فلا حذف في أيّ التاءيْن. ذلك أنّ التنزّل في الآية الأخيرة أكثر مما هو في الآيتَيْن الأخريين. فالمقصود أنّ الملائكة الملائكة تنزل على المؤمنين عند الموت لتبشرهم بالجنة وهذا يحدث على مدار السنة في كل لحظة. ففي كل لحظة يموت مؤمن مستقيم فتتنزل عليه الملائكة لتبشره بالجنة فأعطى الفعل كل صيغته ولم يحذف منه شيئاً.
أما آية الشعراء، فإن التنزل فيها أقل لأن الشياطين لا تتنزل على كل الكفرة وإنما تنزل على الكهنة أو على قسم منهم، وهم الموصوفون بقوله: “كل أفاك أثيم يلقون السمع” ولا شك أن هؤلاء ليسوا كثيراً في الناس وهم ليسوا بكثرة الأولين ولا شطرهم، بل هم قلّة لاذلك اقتطع من الحدث. قال: “تنزّل” بحذف إحدى التائين.
وكذلك في آية سورة القدر، فإن تنزل الملائكة إنما هو في ليلة واحدة في العام وهي ليلة القدر، فهو أقل من التنزل الذي يحدث باستمرار على من يحضره الموت. فاقتطع من الحدث.
ونرى انه اقتطع من الفعل إحدى التاءين في آيتي الشعراء وآية القدر لأن التنزل أقل ولم يحذف من آية فصلت لأنه أكثر.
“تفرّقوا” و “تتفرّقوا”:
قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ // وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ // وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ // وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ” (آل عمران 102-105). “شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ // وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ” (الشورى 13-14).
قال الله في آية سورة آل عمران “ولا تفرّقوا” بحذف إحدى التائين، وقال في آية الشورى “ولا تتفرقوا” وذلك لأكثر من سبب:
-أن آية آل عمران خطاب للأمة الإسلامية، وأما آية الشورى فالكلام فيها على أمم مختلفة وشرائع متعددة ذكر منها شريعة نوح وشريعة سيدنا محمد وإبراهيم وموسى وعيسى، فلما كانت هذه في أمم متطاولة على مدى التاريخ جاء بالصيغة التي هي أطول، ولما كانت الآية الأولى في أمة واحدة وهي أمة محمد وهي جزء من الأمم المذكورة في الشورى جاء بجزء من الفعل ولم يأت به كله.
-أنّه نهى الأمة الإسلامية عن أيّ شيء من التفرق مهما كان قليلاً أو جزئياَ وحذّر من ذلك فقال (ولا تفرّقوا) فاقتطع من الفعل للدلالة على النهي عن أي شيء من التفاسق مهما قل وضئل.
ربّنا يا ربّ كلّ شيء, ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقِنا عذاب النار.
بلال شرف الدين