Orland Park Prayer Center

The Prayer Center of Orland Park

ثورة الجامعات … أمريكا على مفترق الطريق

بسم الله الرحمن الرحيم

بعد ما يزيد على المائتي يوم من العدوان على قطاع غزة، وعلى سائر أبناء الشعب الفلسطيني في بقية فلسطين، وما ارتكبه الاحتلال الصهيوني – ولا يزال – في حقّ المدنيين الأبرياء من مجازر، وقصف وتدمير للبيوت على رؤوس ساكنيها، واستهداف للمدارس التي تحولت إلى مراكز إيواء للاجئين من بيوتهم المدمرة، واقتحام وحرق للمستشفيات والمراكز الصحية، وتدمير ممنهج للبنية التحتية، وترحيل وإخفاء قسري للسكان، وحرمان لهم من العديد من أبسط مقومات الحياة، وأسباب البقاء، إلى غير ذلك من جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، التي دفعت العديد من المؤسسات الدولية والحقوقية، والناشطين والخبراء القانونيين إلى وصف كل ما سبق بأنه “إبادة جماعية” في حقّ الشعب الفلسطيني[1]!

وبعد ما يزيد من مائتي يوم من السخط الشعبي العالمي، والتظاهرات والاحتجاجات ضد استمرار هذه الإبادة، بدعم وتمويل وتسليح من العديد من الدول الغربية الداعمة للاحتلال، وتخاذل، بلغ حدّ التواطؤ والتآمر من بعض الدول العربية والإسلامية!

ونتيجة لكل ما سبق، انطلقت مجموعة من الاحتجاجات والتظاهرات والاعتصامات في الجامعات الأمريكية، والتي شارك فيها طلاب الجامعات إلى جانب أعضاء الهيئات التدريسية، مطالبين بوقف الإبادة الجماعية، وقطع جامعاتهم لعلاقاتها مع الاحتلال، وإنهاء تعاونها العلمي مع مؤسساته، وسحب استثماراتها من الشركات التي تبيع الأسلحة له. وقد توسعت هذه الاحتجاجات لتتحول إلى ما يشبه الثورة، والتي امتدت عبر البلاد، من لوس أنجلوس إلى نيويورك وواشنطن، مرورا بأوستن وبوسطن ودالاس وشيكاغو وأتلانتا، وشملت جامعات مرموقة عالميا مثل (هارفرد) و (يال) و (كولومبيا) و (برينستن)، مما أعاد إلى الأذهان الاحتجاجات الطلابية على حرب فيتنتام في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي[2].

وقد أثارت هذه الاحتجاجات والمظاهرات مخاوف قادة الاحتلال، والعديد من الداعمين له، والذين أخذ القلق يعتريهم – على ما يبدو – من هذه الاحتجاجات مما حدا بهم إلى محاولة وصم الاحتجاجات الجامعية بمعاداة السامية، متجاهلين مشاركة العديد من الطلاب والأساتذة اليهود فيها، بل واحتفالهم بعيد الفصح اليهودي في مواقع الاحتجاجات[3].

ورغم سلمية هذه الاعتصامات، إلا أن بعض إدارات الجامعات، وبضغط وتحريض من الاحتلال وداعميه، قد عمدت إلى محاولة فضّ هذه الاعتصامات بالقوة، واستدعاء الشرطة إلى الحرم الجامعي، والتي اعتدت على المشاركين، وقامت باعتقال المئات منهم، سواء من الطلاب أو أعضاء الهيئات التدريسية، في تصرف يتناقض مع الدستور الأمريكي، الذي يكفل حرية التعبير مهما كان محتواها جدلياً أو “مُسيئاً” – في نظر البعض – ويمنع – بحسب التعديل الأول منه – اعتقالَ أي شخص لتعبيره عن رأيه، كما ينص هذا التعديل على أن “لا يُصدر الكونغرس أي قانون خاص بإقامة دين من الأديان أو يمنع حرية ممارسته، أو يحد من حرية الكلام أو الصحافة، أو من حق الناس في الاجتماع سلمياً، وفي مطالبة الحكومة بإنصافهم من الإجحاف[4].

ولعل السرّ في هذه الحملة الشعواء، من قبل الاحتلال وداعميه، ضدّ هذه الاحتجاجات والتظاهرات السلمية، أنها تثير لديهم القلق الشديد، كونَها تعبّر عن تغير المزاج العام لدى جيل الشباب، تجاه السياسات الأمريكية الداعمة للاحتلال، المتماهية مع سياساته، المتغاضية عن جرائمه، بل والممولة لها بأموال دافعي الضرائب الأمريكيين. وهذا التغيّر يعتبر أمرا طبيعيا نتيجة لزيادة الوعي بالقضايا القائمة، وعدم التأثر بالأيديولوجيات السياسية، والبروبوجاندا الإعلامية، التي تمارسها بعض الجهات التي تحاول السيطرة على الرأي العام في البلاد.

كما أن هذه تأثير هذه المظاهرات والاحتجاجات قد لا يتوقف عند حدود الولايات المتحدة، بل قد يمتد تأثيره إلى بلدان أخرى، وهذا ما بدأت بوادره تتجلّى، حيث نظم مئات الطلاب في جامعة سيدني الأسترالية احتجاجات منددة بالعدوان “الإسرائيلي” على قطاع غزة، ونصبوا خياما للاعتصام بالحرم الجامعي[5].

إن المتأمل في هذه الاحتجاجات، وردة الفعل العنيفة تجاهها، من قبل بعض الإدارات، والتحريض عليها من قبل الاحتلال وداعميه، يكشف لنا أن البلاد تقف اليوم على مفترق طرق، سيقودها إما نحو مستقبل واعد، تنتصر فيه القيم الأخلاقية والإنسانية العليا، وتتحرر فيه البلاد من هيمنة جماعات الضغط، واللوبيات، التي أصبحت تتحكم في مقدراتها، وتوجهها نحو مصالحها الخاصة، على خلاف رغبة الأغلبية من أبناء الشعب الأمريكي، وإما نحو مستقبل مظلم، تسيطر فيه بعض الجهات المتنفذة، والتي تمتلك أدوات السلطة والقوة والقمع، وتقود البلاد نحو التردّي إلى مستوى البلدان المتخلفة أخلاقيا وإنسانيا، لتقترب، أو ربما تلتحق، بركب الدول الدكتاتورية القمعية، التي طالما تعودنا أن نسمع التنديد بها وبسياساتها المجحفة بحق شعوبها وناشطيها على ألسنة العديد من المسؤولين الأمريكان.

ولعل قراءة التاريخ تلقي لنا بعض الضوء على طبيعة المستقبل الذي تقبل عليه البلاد؛ فإن حركة التاريخ وسنّة التغيير غالبة على أية قوة تحاول منعها أو عرقلتها، وقد شهدنا كيف نجحت الاحتجاجات الشعبية، والمظاهرات الطلابية في فرض العدالة في العديد من القضايا الحاسمة، والتي كان لها تأثيرات عميقة على المجتمع والمشهد السياسي الأميركي عامة، كما كانت محطة فارقة في مسار النضال من أجل الحقوق المدنية والعدالة الاجتماعية، وطالت تداعياتها أيضا عمل وسياسات الجامعات الأميركية؛ كما في الاحتجاجات ضد حرب فيتنام، ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وحركة الحقوق المدنية التي ساهمت بإنهاء التمييز ضد الأميركيين من أصل أفريقي، كما في قضايا أخرى ترتبط بسياسات الجامعات ونظامها التعليمي[6].

وكشخص يعيش في هذه البلاد، ويرى فيها مستقبل أبنائه، فإني أتمنى أن أرى قيم الحرية والعدالة والحقّ تنتصر على الجهات التي تحاول قيادة البلاد نحو التسلّط والديكتاتورية، ورعاية مجرمي الحرب، وتوفير الحماية لمرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، الأمر الذي يتناقض مع القيم التي أسست عليها هذه البلاد، وادعى كثير من قادتها وسياسييها ومفكريها أنهم يسعون إلى ترسيخها.

وإني أتمنى أن تساهم ثورة الجامعات هذه في تعديل مسار السياسة في البلاد نحو اتجاه أكثر أخلاقية، وأكثر انسجاما مع القيم الإنسانية العليا على مختلف الصعد، وفي مختلف المجالات، وأن تكون هذه الثورة مصدر إلهام لطلاب وأساتذة الجامعات حول العالم، كي يصطفوا مع الحقّ، ويقفوا في مواجهة الإجرام والقتل والتدمير. بهذا فقط يمكننا أن نأمل بمستقبل أفضل لأبنائنا، مستقبل يتمكنون فيه من الوقوف مع كل قضية عادلة، دون أن يخشوا على فرصهم في التعليم والعمل والحياة الكريمة.

كل التحية والتقدير لأولئك الشجعان، من طلاب وطالبات الجامعات، وهيئاتها التدريسية، الذين اختاروا الوقوف إلى جانب الحقّ، وأتمنى يوما أن نرى منهم قادة يقودون البلاد، والعالم كله، نحو مستقبل أكثر إشراقا وازدهارا.

[7].

ولعلنا لا نبعد عن الحقّ النجعة إن قلنا في هذا المقام: إن الدعاء على أمثال هؤلاء الظلمة بالهلاك والبوار، وأن يلحقهم الله تعالى بمن سبقهم من الظلمة والطغاة، وأن يهلكهم كما أهلك من قبلهم من الفراعنة والنماريد العتاة، لهو أقلّ ما يمكن للمؤمن أن يفعله في حقهم، ويعذِر إلى تعالى به تجاههم، وإلا فأمثال هؤلاء المنافقين لا ينبغي أن يبقوا على سدّة الحكم في بلاد المسلمين يوما واحدا،

الشيخ الدكتور هيثم زماعرة

[1] شبكة الأناضول: مقررة أممية: ما يحدث في غزة “إبادة جماعية” – 24.04.2024، الرابط:

https://www.aa.com.tr/ar/إسرائيل/مقررة-أممية-ما-يحدث-في-غزة-إبادة-جماعية/3200833

BBC News عربي: https://www.bbc.com/arabic/articles/cg3re28vzewo

[2] الجزيرة نت: الاحتجاجات بالجامعات الأميركية تتوسع ومنظمات تندد بالانتهاكات، 26/4/2024. الرابط:

https://www.aljazeera.net/news/2024/4/26/الاحتجاجات-الطلابية-في-أميركا-تتوسع

الجزيرة نت: جامعات أميركية جديدة تنضم للمظاهرات المؤيدة لغزة، 25/4/2024. (آخر تحديث 26/4/2024) الرابط:

https://www.aljazeera.net/news/2024/4/25/جامعات-أميركية-جديدة-تنضم-للمظاهرات

يورو نيوز: ثورات في الجامعات الأمريكية.. اعتقالات وإغلاقات وسط تصاعد الاحتجاجات ضد الحرب الإسرائيلية على غزة – 23/04/2024، الرابط:

https://arabic.euronews.com/2024/04/23/israel-war-pro-palestinian-protests-sweep-us-university-mass-arrests-columbia-yale-harvard

[3]  TRTعربي: طلاب يهود لرئيس “النواب الأمريكي”: مظاهرات دعم فلسطين لا تعادي السامية، الرابط:

https://www.trtarabi.com/now/طلاب-يهود-لرئيس-النواب-الأمريكي-مظاهرات-دعم-فلسطين-لا-تعادي-السامية-17912944

[4]  BBC News عربي: فضّ الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية: ماذا تقول قوانين البلاد؟ الرابط:

https://www.bbc.com/arabic/articles/cx03nqvg79zo

[5] الجزيرة نت: احتجاجات طلابية بجامعة أسترالية ضد حرب غزة …، 24/4/2024. الرابط:

https://www.aljazeera.net/news/2024/4/24/احتجاجات-طلابية-بجامعة-أسترالية-ضد

الجزيرة نت: جامعات أميركية جديدة تنضم للمظاهرات المؤيدة لغزة، 25/4/2024. (آخر تحديث 26/4/2024) الرابط:

https://www.aljazeera.net/news/2024/4/25/جامعات-أميركية-جديدة-تنضم-للمظاهرات

يورو نيوز: ثورات في الجامعات الأمريكية.. اعتقالات وإغلاقات وسط تصاعد الاحتجاجات ضد الحرب الإسرائيلية على غزة – 23/04/2024، الرابط:

https://arabic.euronews.com/2024/04/23/israel-war-pro-palestinian-protests-sweep-us-university-mass-arrests-columbia-yale-harvard

[6] الحرة: من فيتنام إلى غزة.. لمحة عن احتجاجات طلاب الجامعات الأميركية – 24 أبريل 2024، الرابط:

https://www.alhurra.com/usa/2024/04/24/فيتنام-غزة-لمحة-احتجاجات-طلاب-الجامعات-الأميركية

[7] سورة إبراهيم: 46.

.

Sign up for our email list!

Sign up to get the monthly Insight E-News, Programs & Events Announcements, as well as Ramadan and Eid information delivered to your inbox.

Accessibility Toolbar