Orland Park Prayer Center

The Prayer Center of Orland Park

ماذا قدمت لنفسك في رمضان؟

     ما أسرعَ  الليالي والأيام، وما أشدَّ جريَانِ الأحوال! فإن رَحْلَ الأيام تدور حثيثاً بحُلوها ومرِّها، وحرِّها وبردها، وأفراحها وأتراحها، وضيقها وسعتها، وحسناتها وسيئاتها، بالأمس كنا نتحدث عن استقبال شهرِ رمضان، وها نحن اليوم فإذا بنَا قد ذهبَ أكثر من ثلثي رمضان، وما هي إلا أيامٌ حتى نُفَاجَأ بهلال شوّال، وإقفال سوق المنافسة وخزائنِ الأعمال، والوقوف بين يدي الله تعالى يوم القيامة هناك، يوم تُفْتَحُ خزائن الاجتهادِ وتُنْشَرُ دواوين العمل ..!!

     كلنا يعلم أن رمضانُ شهر كلُّهُ رحمةٌ ومغفرةٌ وعتقٌ من النار، ونصفُهُ الثاني خيرٌ من نصفه الأول بيقين، فهذا رمضانُ قد قارب على الإنتهاء، فمن منَّا حاسب نفسه فيه وانتصف؟! حقٌّ على كلّ عاقلٍ أن يسألَ نفسَه: ماذا قدّمَ في هذا الشهر وما الذي أخّر؟! كيف وجدت حالكَ مع القرآن في هذه الأيّام التي مضت؟ كيف وجدت حالكَ مع الصّلوات؟! كيف وجدت حالكَ مع الإحسانِ والصّدقات؟! فالكرماء أكثروا الإطعامَ والصّدقات، وباركُوا للمساكينِ الأعطيات، فماذا قدّمت لنفسِك؟! كيف وجدت حالكَ مع التراويح؟! فالمُجِدُّون ما تركُوا ركعةً واحدة، وها قد زال تعبُ القيام، وذهبت راحة الغفلة ! فماذا قدّمت لنفسِك؟! يقول الحسن البصريّ رحمه الله تعالى: “إن الله تعالى جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يتسابقون فيه بطاعته إلى مرضاته،  فتسابق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا”.

     في رمضان تُقْبِلُ القلوب إلى باريها جل في علاه، وفي الصيام تُذَلُّ النفوس لربّها، وتَسْهُل عليها الطاعات والقُربات  والصدقات، فماذا قدمنا في رمضان وهل تصدقنا؟ هذا أحد السلف كان صائماً يوماً من الأيام فوضع فطوره بين يديه وهو جائع فسمع سائلاً يسأل في الباب فيقول: من ذا الذي يقرض الغنيُﷻ،  فقام من مكانه وقال أنا العبد المعدوم من الحسنات، فقام وأخذ الإناء فخرج به إلى هذا المسكين فأعطاه إياه وبات هو جائعاً.

     سلام من الله ورحمات على تلك النفوس المؤمنة المخبتة الذين كفو جوارحهم عن معصيته، ورتلو كتابه ترتيلاً واستعدوا لما أمامهم، صيامٌ بالنهار، قيامٌ بالليل، وصبرٌ على طاعة الله في أيامٍ قلائلَ، هذا احدُ الصالحين كما روى عنه بن سعيد -رحمه الله- قال: “كان محمد بن إسماعيل ــ يعني البخاري -رحمه الله- ــ يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة, ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليال بختمة”. وعن الربيع بن سليمان -رحمه الله- من عدة طرق عنه قال: “كان الشافعي -رحمه الله- يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة”، ورواها ابن أبي حاتم عنه وزاد: كل ذلك في صلاة.

     إذا كان هذا حال أسلافنا مع كتاب الله.. فما حالهم إذا حلّ الليل.. وهدأت الأصوات.. ونزل الربُّ الجليل إلى السماء الدنيا يقول: هل من تائب؟ هل من مستغفر؟ هل من داعٍ؟ روى ابن سيرين -رحمه الله- أن تميمًا الداريّ -رضي الله عنه- كان يقرأ القرآن في ركعة. وعن ثمامة -رضي الله عنه- قال: كان أنس -رضي الله عنه- يصلي حتى تفطر قدماه دمًا مما يطيل القيام . وعن معاذة -رحمها الله- قالت: كان أبو الصهباء يصلي حتى ما يستطيع أن يأتي فراشه إلا زحفًا.

     هؤلاء كانوا يفرحون بالليل إذا أقبل ليفوزوا بمناجاة الملك العلام، ويفرحون بالنهار إذا جاء لأنهم صيام والصيام لله وهو الذي يجزي به فللصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، فأبشروا معاشر الصائمين القائمين فهذه أبواب الجنة الثمانية في هذا الشهر المبارك لأجلكم قد فُتحت، ونسماتها على قلوب المؤمنين قد نَفحت، وأبوابُ الجحيم كلّها لأجلكم قد غُلِّقت، وأقدامُ إبليس وذريته من أجلكم قد صُفِّدت، نعم أبشروا فإن الصيام يشفع للعبد يوم القيامة يقول يا رب منعته شهواته فشفعني فيه فيُشَفّع فيه.

     من يتأمل أيام وليالي رمضان يجدها تمضي سريعاً فماذا قدمت لنفسك في هذه الأيام التي مضت؟ وماذا أودعت فيها؟ هل أودعتها أعمالاً صالحة، أم أودعتها خيبة وخسارة؟ يقول ابن رجب الحنبلي -رحمه الله- مخاطبًا المقصّرين في استغلال هذا الشهر الكريم : “يا من ضيَّع عمره في غير الطاعة، يا من فرّط في شهره بل في دهره وأضاعه، يا من بضاعته التسويف والتفريط وبئست البضاعة، يا من جعل خصمه القرآن وشهرَ رمضان كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة؟ ويل لمن شفعاؤه خصماؤه”.
يا نفس فاز الصالحون بالتقى *** وأبصروا الحق وقلبي قد عمي

يا حُسنَهم والليل قد جَنَّهــــــــــــــمُ  *** ونورُهم يفوق نـــــــــــــــــــــــور الأنجمِ

ترنموا بالذكر في ليلهـــــــــــــــــــــــــــمُ *** فعيشُهم قــــــــــد طاب بالترنـــــــــــــــــمِ

قلوبهم للذكــــــــر قـــد تفرغـــــــــــــت *** دموعهـــــــــــــم كــــلؤلؤ منتظــــــــــــــــــــم

أسحارُهم بهم لهم قد أشرقــــــــت*** وخِلَعُ الغفران خيـــــر القِسَـــــــــــــــــمِ

وَيْحَكِ يا نفسُ ألا تَيَقُــــــــــــــــــــــــــظٌ *** ينفع قبل أن تَزِلَّ قدمـــــــــــــــــــــــــــي

مضى الزمان في ثوان وهوى *** فاستدركي ما قد بقي واغتنمي

     فيا باغي الخير أقبل فهذا زمن الصالحات، ويا باغي الخير أقبل وتزود بالحسنات، ويا باغي الخير أقبل فهذا زمن المنافسات، ويا باغي الشرِّ أقصر فهذا شهر النفحات والقربات؛ يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ .. فرمضان فرصة لتتغير يا تارك الصلاه، يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ .. نصيحةٌ إلى الذين لا يحفظونَ لسانَهم عن أعراضِ النَّاسِ ..نصيحة إلى الذين يكذبونَ .. وبشعائرِ اللهِ هم يستهزئونَ .. فكم من كَلمةٍ قالَها صاحبُها في مجلسٍ ليُضحكَ بها القومَ لم يُلقِ لها بالاً أهلكتْه هلاكاً كَبيراً .. كما في الحديثِ: “إِنَّ اَلرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالاً، يَهْوِي بِهَا فِي اَلنَّارِ، أَبَعْدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ”. يَا بَاغي الشَّرِّ أَقْصِرْ .. إليك يا من تساهلتَ في حِفظِ سمعِكَ وبَصرِكَ .. يا باغي الشر أقصر فهذا رمضان..  وتأمل في قوله تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36].

      يا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ نعم إليك يا من هجرت القرآن.. وكَفى هِجراناً لكتابِ اللهِ عز وجل  أقصر .. فهذا الشَّهرُ هو الشَّهرُ الذي نزلَ فيه .. ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ [البقرة: 185] .. فله فيه مكانةٌ خاصةٌ .. وَفِيهِ كَانَ جِبْرِيلُ يُدَارِسُ النَّبِيَّ ﷺ الْقُرْآنَ .. فافتحْ بينَك وبينَ القرآنِ في هذا الشَّهرِ صفحةً جديدةً .. وأقبلْ عليه تلاوةً وتدبُّراً .. واحذرْ أن تكونَ خصيمَ محمدٍ ﷺ يومَ القيامةِ حينَ يقفُ أمامَ ربِه ويقول .. ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان:30[ .

     فيا قلوبَ الصّائمينَ اخشعِي .. ويا أقدامَ المجتهِدين اسجُدي لربّكِ واركعي .. ! يا عيونَ المؤمنين دونَ الجنّةِ لا تنظُري .. ! يا هممَ المُحبّينَ بغيرِ الله في الحياة لا تقنَعي .. ! يا ليلةِ القدرِ للعابِدين الزاهدين اشهَدِي .. ! ويا ألسنةَ السّائلين في المسألةِ جِدّي واطلُبي .. ! يا غيومَ الغفلةِ عن البصائرِ تقشّعي .. ! ويا أرضَ الهوى ابلعي ماءَكِ ويا سماءُ أقلِعِي .. ! طوبى لمن أجابَ فأصابَ .. وويلٌ لمن طُردَ عن البابِ وما دُعي .. !

وكتبه الشيخ مروان عبد الرحمن كصك

.

Sign up for our email list!

Sign up to get the monthly Insight E-News, Programs & Events Announcements, as well as Ramadan and Eid information delivered to your inbox.

Accessibility Toolbar