مع أواخر عام 2019 م أخذ وباء فيروسي جديد ينتشر بشكل واسع، منطلقا من بلاد الصين، وتحديدا من مدينة ووهان، مخترقا حدودها إلى سائر الأقاليم والمقاطعات الصينية، ثم إلى بقية بلدان العالم، التي أخذت تعلن عن اكتشاف أوائل حالات الإصابة بهذا المرض، وتتخذ الإجراء تلو الآخر في محاولة الحد منه، إلى أن أعلنت منظمة الصحة العالمية أن انتشار هذا الوباء الذي أصبح معروفا باسم Covid-19 أو فايروس كورونا الجديد، قد تحول إلى جائحة عالمية، وبينما كانت الصين تعلن عن نجاحها في احتواء هذا الوباء، كانت تظهر بؤر جديدة له، في إيران وإيطاليا، ثم بقية أوروبا، ثم الولايات المتحدة الأمريكية، التي تخطت الصين مؤخرا في عدد المصابين، لتصبح أكبر بؤرة انتشار لهذا الوباء، حيث قارب عدد الإصابات فيها لحظة كتابة هذه المقالة المائتي ألف إصابة مؤكدة، بينما قارب عدد الإصابات حول العالم المليون إصابة، ولربما يكون – عند نشر هذه المقالة – قد بلغ هذا العدد إن لم يكن قد تجاوزه، مع توقعات بأن يرتفع عدد الإصابات والوفيات الناتجة عن هذا الوباء بشكل أسيّ، مما يجعل هذه الجائحة تأخذ مكانها في التاريخ الإنساني باعتبارها إحدى أكبر الكوارث والأوبئة التي عصفت بالبشرية، شأنها شأن الإنفلونزا الإسبانية، والطاعون الأسود، ومثيلاتها من الأوبئة الفتاكة التي أودت بحياة الملايين من البشر.
ورغم محاولة مختلف الجهات الرسمية وغير الرسمية حول العالم احتواء هذا الوباء، فإن معدل تزايد حالات الإصابة لا يبشر بخير، ويشي بأن القادم قد يكون أسوأ بكثير مما نتوقع، مما يستلزم منا وقفة في الوسائل التي يمكن أن تساهم في الحد من انتشار هذا المرض وتخفيف آثاره على مختلف المستويات الصحية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
وقد تعددت وجهات النظر حول كيفية مواجهة هذا الوباء، ومنهجيات التعامل معه، ويمكن حصرها في ثلاثة توجهات، انتهج كلا منها بعض الدول والحكومات في سبيل مواجهة هذا الوباء، وهي: مناعة القطيع، والحجر الشامل، والحجر الجزئي، وفيما يلي بيان مختصر لكل منها:
الأول: قصر تطبيق الحجر الصحي على الفئات الأكثر عرضة للمرض، ككبار السن، والمصابين بالأمراض المزمنة، والذين يشتكون من ضعف المناعة، وهؤلاء هم الفئات التي يشكل هذا المرض التهديد الأكبر لهم، حيث ترتفع نسبة الوفيات في أوساطهم إلى مستويات عالية، وفي المقابل يفسح المجال للوباء كي يأخذ مجراه، وينتشر بالمستوى الطبيعي، إلى أن يصل إلى ذروته ثم يأخذ بالانحسار تدريجيا إلى أن يختفي، كما كان يحصل مع الأوبئة والجوائح السابقة التي سجلها التاريخ. وتعرف هذه الآلية بـ “مناعة القطيع”، وهي – بلا شك – منهجية براغماتية، قائمة – وإن لم يصرح أصحابها – على التضحية بالضعفاء وكبار السن، في مقابل اكتساب الأصحاء للمناعة أمام المرض مما يمنع من تحوله إلى وباء موسمي يتكرر كل عام، وربما بشكل أقسى نظرا لقدرة الفيروس على التطور والتحور. وقد صرح بعض زعماء الدول بانتهاجهم لهذه المنهجية، مثل رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، والذي أصيب – بالمناسبة – بالفايروس وخضع للحجر المنزلي كما صرح بذلك وأعلنت عنه الحكومة البريطانية، بحسب موقع BBC.
كذلك فإن تصريحات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، والعديد من مؤيديه تشير إلى ميله إلى تطبيق هذه الآلية، خاصة أنها قد تحافظ على الاقتصاد من الانهيار المتوقع حدوثه حال تطبيق الحجر الكامل.
يضاف إلى ذلك أن نهج بعض الحكومات في التعامل مع الأزمة يشير إلى نية مبيتة لتطبيق هذه الآلية.
أما المنهج الثاني: فهو معاكس تماما للمنهج الأول، ويقوم على تطبيق الحجر الصارم، وإلزام المناطق المنكوبة به، والإغلاق الكامل لجميع المرافق والمصالح، باستثناء بعض المرافق الضرورية، ومنع التنقل بين المناطق، وصولا إلى حظر التجوال الشامل ومنع الأفراد من مغادرة أماكن سكنهم إلا بتصاريح مخصوصة.
وقد كانت الصين سباقة إلى تطبيق هذا المنهج، وساعدها على ذلك نظامها الشمولي، وطبيعة المجتمع الذي اعتاد الرضوخ لإرادة النظام، وتبعتها على ذلك العديد من دول العالم الثالث، ومن ضمنها عدة دول عربية وإسلامية، كما لجأت إليه بعض الدول الأوروبية – وإن متأخرا – في محاولة يائسة لاحتواء الوباء، كما حصل في إيطاليا.
ويبدو أن هذا المنهج قد أثبت نجاعته، حيث نجحت الصين – إن صدقت الأخبار الصادرة عنها – في احتواء الوباء، وصولا عدم تسجيل أية إصابات جديدة في مدينة ووهان، مركز الوباء وبؤرة انتشاره الأولى، بل وقامت مؤخرا بحظر الدخول إلى أراضيها، خشية إعادة نشر الوباء، في إجراء يذكر بحظر العديد من البلدان السفر من الصين وإليها في بداية الأزمة.
ولا شك أن هذا المنهج قد لا يصلح في العديد من البلدان، التي لا تمتلك حكومة مركزية قادرة على فرض الحجر الصارم بالقوة، والتي لم تتعود شعوبها الرضوخ للإجراءات الحكومية.
أما المنهج الثالث: فهو وسط بين المنهجين، وهو قائم على تطبيق حجر جزئي، بمعنى: إغلاق العديد من المرافق والمصالح، مع عدم فرض حظر التجوال وإلزام الأفراد بعدم مغادرة مساكنهم، وترك الحرية لهم في ذلك، وهو المنهج المطبق في الولايات المتحدة الأمريكية إلى غاية الآن، حيث توقفت معظم المرافق والمؤسسات والشركات عن العمل، بما في ذلك دور العبادة، وتم اللجوء إلى بدائل للعمل والتعليم عن بعد، بينما يتمتع معظم الأفراد – في نفس الوقت – بحرية الخروج والتنقل والتسوق بل والتنزه.
ولا يبدو أن هذا النهج قد حقق الغاية منه، حيث لم يحد من انتشار الوباء بشكل كبير، ولذلك تشهد الولايات المتحدة حاليا أعلى نسبة انتشار للوباء على مستوى العالم.
وقد تبين مما تقدم أن لكل منهجية من هذه المنهجيات الثلاث السابقة عيوبها ومميزاتها، كما أن الطبيعة الخاصة كل دولة ومجتمع، سواء على المستوى الفكري، أو الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو السياسي، تؤثر بشكل أساسي على الخيارات التي ينبغي اتخاذها، وهذا ما قد يفسر التخبط الحاصل في الآليات التي ينبغي تطبيقها لدى بعض الأنظمة.
على أنني – ومن وجهة نظري الخاصة – أميل إلى أن المحافظة على حياة الناس ينبغي أن تكون أهم ما يجب مراعاته والالتفات إليه عند اتخاذ أي قرار بخصوص مواجهة هذه الأزمة، فالإنسان هو أساس الدولة والمجتمع والاقتصاد، والحياة الإنسانية أثمن وأقدس من أن يتم التضحية بها في سبيل إنقاذ الشركات ورؤوس الأموال التي يمتلك معظمها أصحاب الثروة والنفوذ، ولذلك ربما يكون تطبيق الحجر الكامل، وإلزام الأفراد به بشكل صارم، أفضل خيار متاح للحد من انتشار الوباء، واحتوائه بأسرع وقت، بانتظار أن يتم اكتشاف اللقاح المضاد، والقضاء على الوباء بشكل كامل، وإلى أن يتم ذلك، سيحدد الزمن، وسيسجل التاريخ أيَّ هذه المناهج الثلاثة كان هو النهج الأنجح والأنجع في مواجهة الوباء، وأيَّ البلدان سيكون الفائز بقصب السبق في سباق “من سيخسر المليون” من الأرواح، ومن سيضحي بالملايين من الدولارات في سبيل إنقاذ الأرواح، سباق الفائز فيه هو أكبر الخاسرين.
حفظ الله الجميع من كل سوء ومكروه، ودعاؤنا بالرحمة لمن قضوا في هذا الوباء، وبالصبر لمن فقدوا أحبائهم، ونضرع إلى الله أن يعجل برفع هذا البلاء عن جميع خلقه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الشيخ الدكتور هيثم زماعرة