الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي الأمين، ﷺ وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
بعدما يهتدي العبد إلى الله تعالى، ويعمر قلبه بالإيمان؛ تتغير مجريات حياته، وتتحول اهتماماته، وينتقل من الدونية إلى الفوقية، تعلو همته، ويبعد نظره، وتسمو نفسه، فلا ترضى من الدنيا بشيء؛ بل همّها الأكبر متعلق بالآخرة؛ ولذا تجد أن صاحبَ تلك النفس النفيسة، وهذا القلب الحي العامر، لا يرضى بغير محبة الله بديلاً، فلا تبصره إلا ماشيًا في مرضاة الله تعالى، مجانبًا لغضبه وسخطه.
هذه وقفة عابرة على سيرة من أعجب السير، من تأمل أحوال صاحبها مع اعتباره؛ نبض قلبه بالحياة بإذن الله تعالى، صاحبها صاحب شرف في الدنيا والآخرة، فنسبه ضارب في العراقة والمجد، نسب الطاهرين في الدنيا والآخرة من بني هاشم، أوسط قريش نسبًا، وصفاته وأخلاقه تتقدم الصفوف الأولى من الكمال البشري.
يقول أبو نعيم الأصبهاني في وصفه: “الخطيب المِقدام، السَّخِيُّ المِطعام، خطيبُ العارفين، ومضيفُ المساكين، ومهاجرُ الهجرتين، ومصلي القبلتين، البطلُ الشجاع، الجواد الشعشاع“.
ومع كل هذا الوصف والمجد يبلغ المنتهى في التواضع، فلا يأنفُ أن يكون جنديًا من جنود الحق تحت إمرة مولىً من موالي ابن عمه الصادق المصدوق ﷺ، خاطبه النبي ﷺ يومًا فقال: “أشبهت خَلْقي وخُلُقي”. أخرجه البخاري.
إنه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، تقدم إسلامه جدًّا حتى إنه يُقَدَّم في أوائل من أسلموا وهاجروا إلى الحبشة فرارًا بدينهم، كما قالت أم سلمة رضي الله عنها: لما ضاقت علينا مكة وأوذي أصحاب رسول الله ﷺ وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء؛ فقال لهم رسول الله ﷺ: “إن بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم عندَه أحد، فالحقوا ببلاده حتى يجعلَ اللهُ لكم فرجًا ومخرجًا“.
كان جعفر رضي الله عنه من المهاجرين إلى الحبشة فرارًا بدينه، لكن قريشًا لم يتركوهم، بل أرسلوا في أثرهم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، فالتقى وفدُ المشركين بالمسلمين في مجلس الملك العادل النجاشيّ رحمه الله تعالى؛ فكانت المناظرة العظيمة بين داهية العرب عمرو بن العاص رضي الله عنه ممثلاً للمشركين، وبين جعفر بن أبي طالب خطيب المسلمين ذلك اليوم.
تروي أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها تفاصيلَ تلك المناظرة العظيمة فتقول: “لما نزلنا أرضَ الحبشة جاورنا بها خير جار: النجاشي، أمِنَّا على ديننا، وعبدنا الله تعالى، لا نؤذى ولا نسمع شيئًا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشًا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشيّ فينا رجلين منهم جَلْدين، أهدوا للنجاشي هدايا مما يُستطرف من متاع مكة، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشيّ، وطلبوا منهم معونتهم عند النجاشي“.
ثم إنهما قدما هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: “أيها الملك: إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء؛ فارقوا دينَ قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بَعَثَنَا إليك منهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه“.
قالت: فقالت بطارقتُهُ حوله: “صدقًا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما فلْيَردّاهُم إلى بلادهم وقومهم“.
قالت: “فغضب النجاشي ثم قال: لا ها الله -أي لا والله- إذًا لا أسلمهم إليهما ولا يكاد، قوم جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني“.
قالت: “ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله ﷺ فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟! قالوا: نقول والله ما علمنا، وما أمرنا به نبينا ﷺ كائنًا ما هو كائن“.
فلما جاؤوا وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله سألهم فقال لهم: “ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟! قالت: فكان الذي كلَّمه جعفر بن أبي طالب فقال له: أيها الملك: كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة“.
قالت: “فَعَدَّدَ عليه أمور الإسلام؛ فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئًا، وحرَّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا، وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، رجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك.“
قالت: “فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟!”.
قالت: فقال له جعفر: “نعم، فقال له النجاشيّ: فاقرأه، قالت: فقرأ عليه صدرًا من (كهيعص)، قالت: “فبكى والله النجاشيّ حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أَخْضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم؛ ثم قال النجاشيّ: “إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاةٍ واحدة، انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون“.
قالت: “فلما خرجا من عنده، قال عمرو بن العاص: “والله لآتينه غدًا عنهم بما أستأصل به خضراءهم، والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد”. قالت: “ثم غدا عليه من الغد فقال: أيها الملك: إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيمًا؛ فأرسلْ إليهم فسلهم عما يقولون فيه”. قالت: “فأرسلَ إليهم ليسألهم عنه”، قالت: “ولم ينزل بنا مثلها قط؛ فاجتمع القوم ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟! قالوا: نقول والله ما قال الله، وما جاءنا به نبينا كائنًا في ذلك ما هو كائن“.
قالت: “فلما دخلوا عليه قال لهم: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟!”.
قالت: “فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا ﷺ، هو عبد الله ورسوله، وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول”. قالت: “فضرب النجاشيّ بيده إلى الأرض فأخذ منها عودًا ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلتَ هذا العودَ، قالت: فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال. فقال: “مرحبًا بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجد في الإنجيل، وأنه الرسول الذي بشر به عيسى ابن مريم؛ انزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه، قالت: وأمر لنا بطعام وكسوة”. حديث صحيح عظيم، أخرجه أحمد وابن إسحاق وأبو نعيم.
وهكذا كان جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه خطيب القوم والمحامي عنهم؛ بل كان إسلام النجاشي على يديه، وتلك منقبة عظيمة. وبقي جعفر مع من بقي من المسلمين في الحبشة.
فلما ظهر الإسلام وكان عام فتح خيبر، هاجر جعفر ومن معه من الحبشة إلى المدينة، فلما رجع النبي ﷺ من خيبر تلقاه جعفر، فالتزمه رسول الله ﷺ، وقبَّل بين عينيه وقال: “ما أدري بأيهما أنا أفرح، بقدوم جعفر أم بفتح خيبر؟!”. أخرجه الحاكم مرسلاً صحيحًا.
وعلى الرغم من أن جعفرًا كان من أعلام الجهاد، آتاه الله قوة في لسانه، ومع قوته في القتال فإنه كان متواضعًا طائعًا لله ورسوله؛ لما جهز رسول الله ﷺ جيش مؤتة جعل أميرهم مولاه زيد بن حارثة، ثم جعفرًا، ثم ابن رواحة، فلم يغضب من ذلك جعفر؛ بل وثب وقال لرسول الله ﷺ: “بأبي أنت وأمي! ما كنت أرهب أن تستعمل زيدًا عليَّ“.
قاتل رضي الله عنه حتى قُتل، لم يفر من كثرة العدد، ولم يرهب قوة العدو؛ بل كان ثابتًا مقدامًا، أتدرون كم كانت جراحه رضي الله عنه؟! جاءت في أخبار لولا ثبوتها في صحيح البخاري وغيره لما كانت تصدق؛ روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما “أنه وقف على جعفر يومئذٍ وقد قتل، قال: فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره”. يعني في ظهره.
وفي الطبراني بإسناد حسن من حديث عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله ﷺ: “هنيئًا لك يا عبد الله بن جعفر؛ أبوك يطير مع الملائكة في السماء“.
وقد حزن النبي ﷺ على جعفر؛ قالت عائشة رضي الله عنها: “لما جاءت وفاة جعفر عرفنا في وجه النبي ﷺ وسلم الحزن“.
كان هذا الإمام الكبير، والصاحب الجليل، جوادًا كريمًا، محبًّا للضعفاء والمساكين؛ أخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: “ما احتذى النعال، ولا ركب المطايا بعد رسول الله ﷺ أفضلُ من جعفر بن أبي طالب”. يعني في الجود والكرم.
كانت هذه إطلالة سريعة على سيرة هذا الصاحب الجليل، الكبير الشأن، العظيم المنزلة في إيمانه وصبره، وهجرته وجهاده، وأخلاقه وصفاته.
ما أجمل أن يربَّى على سيرتهم شباب المسلمين وناشئتهم، وأن يقرأها كبارهم، ما أحسن أن تعطر بها المجالس، ويقضى بسماعها وقت الفراغ؛ ففيها أحكام الشرع، وأخبار الجهاد والكفاح، وأنباء البطولات والملاحم، وفيها العبرة والعظة، اللهم ارض عن جعفر وأرضِهِ، وارض عن الصحابة أجمعين، واحشرنا في زمرتهم يا رب العالمين، وألحقنا بهم في دار النعيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وكتبه الدكتور الشيخ
مروان عبد الرحمن كصك