Orland Park Prayer Center

The Prayer Center of Orland Park

سلسلة “ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا”[1]

(1)

كي لا تتكرر المأساة … رسائل مهمة للمجتمع المسلم

صبيحة يوم الأحد، الحادي والعشرين من شهر كانون الثاني لعام 2024، استفاق المجتمع المسلم في منطقة شيكاغو، وفي سائر الولايات المتحدة عموما، على خبر مفجع، حيث تعرضت أربعة نساء، أم وبناتها الثلاث، لجريمة قتل بشعة، في ضاحية تنلي بارك، جنوب شيكاغو.

في البداية، ظننت – كما الكثيرون – أنها جريمة كراهية، حيث تصاعدت في الآونة الأخيرة حدّة التعرض للمسلمين، نتيجة التحريض الذي مارسه بعض السياسيين، وروجت له بعض وسائل الإعلام، ولم يتورعوا في ذلك عن نشر الأكاذيب والمعلومات المضللة، مما تسبب في حوادث اعتداء على المسلمين، كان من أكثرها بشاعة، حادثة قتل الطفل وديع الفيومي، ذو العشر سنوات، وإصابة والدته بجروح خطيرة، على يد أحد الجيران، الذي تأثر بالبروبوجاندا الإعلامية والسياسية المغرضة.

ولكن، وبينما أخذت تفاصيل الحادثة تتضح شيئا فشيئا، تبين أن الجريمة التي وقعت في (تنلي بارك)، لم تكن على يدّ عنصري متطرف، أو مهووس حاقد على الإسلام، وإنما كان الطرف المجرم فيها هو آخر شخص ربما يُتوقع ارتكابه لمثل هذه الجريمة النكراء؛ حيث تبين أن والد الفتيات، وزوج والدتهنّ، هو الذي ارتكب هذه الفظاعة المروعة! حيث – كما كشفت التحقيقات اللاحقة – قام ذلك الرجل الستيني، مستخدما سلاحين ناريين، بإطلاق سبع عشرة رصاصة، على زوجته، ماجدة (59 عاما)، وبناته؛ التوأم حليمة وزهية (25 عاما)، وحنان (24 عاما)، مرديا إياهن قتيلات، بإصابات مباشرة، من ضمنها إصابات في الرأس، قبل أن يتصل – بنفسه – بالشرطة ويبلغهم عن الجريمة التي ارتكبها[2].

تسببت هذه الجريمة بحالة من الصدمة، والتفجع، لدى أفراد المجتمع عموما، ولدى رواد مسجدنا (مركز الصلاة) في أورلاند بارك خصوصا، وذلك أن اثنتين من الضحايا؛ التوأم زهية وحليمة، كانتا من رواد المسجد، والمتطوعات في تقديم البرنامج الأسبوعي (Story Night) للأطفال، وكان تغلق البنات الصغار بحليمة بالذات، كبيرا جدا؛ حيث كانت ترسم لهن الحنّاء على أيديهن في حفلات المسجد في العيد، وغيرها من الأنشطة[3].

عندما ذهبت – بعد يومين – لحضور دفن الضحايا، كان هنالك حضور ضخم من أفراد المجتمع، وكانت جنازة الضحايا من أكثر الجنائز التي تفطر القلب، لم يماثلها – ضمن ما شهدت – سوى جنازة الطفل وديع الفيومي، الذي قتل قبل أشهر نتيجة التحريض السياسي والإعلامي ضد المسلمين.

كان مشهد النعوش الأربعة، للأم وبناتها الثلاث، مؤلما للغاية، ولا تملك حين رؤيته إلا أن تستحضر مشاهد القبور الجماعية لضحايا عدوان الاحتلال على أهلنا في قطاع غزة، وكأن كل ما يحصل من القتل والإبادة الجماعية في فلسطين، على مشهد من العالم أجمع غير كاف، حتى نشهد مثل هذه الجريمة المروعة في مجتمعنا الآمن والمسالم!

وبغض النظر عن مجريات هذه الحادثة المروعة، ودوافعها وأسبابها، والتي ننتظر أن تكشف عنها الجهات المعنية بالتحقيق فيها، إلا أننا نعلن – وبكل وضوح – رفضنا القاطع لهذه الجريمة النكراء، كما نكرر استنكارنا واستهجاننا المطلق لأي اعتداء على حياة الأبرياء، وإزهاق أرواح المسالمين الآمنين، بغض النظر عن مصدرها، ودوافعها، وطبيعة ضحاياها، وهذا الموقف هو الذي طالما تبناه المجتمع المسلم – أفرادا ومؤسسات – في كل واقعة تتكرر فيها مثل هذه الأعمال الوحشية[4]، التي تتعارض مع ديننا وقيمنا وثقافتنا، فضلا عن مناقضتها للطبيعة الإنسانية، والفطرة السوّية.

على أن مجرد الرفض والتنديد، والاستنكار والاستهجان لمثل هذه الجرائم، لا يكفي – رغم ضرورته – إذا أردنا اتخاذ موقف نواجه فيه مثل هذه الجرائم الشنيعة، ونضع حدا لهذه الظاهرة المقيتة، بل يجب علينا كمجتمع مسلم – أفرادا ومؤسسات – أن نستخلص الدروس والعبر من هذه المأساة، وأن نتخذ خطوات عملية من أجل منع تكرر مثل هذه المأساة مجددا.

ومن هنا، واستشعارا لأهمية دورنا كأئمة ورجال دين، ومركزية تأثيرنا كمساجد ومراكز إسلامية، فإننا نوجه هذه الرسائل إلى مجتمعنا المسلم، وخاصة الآباء والأمهات، والتي ننبه فيها على قدسية الحياة، وقيمة النفس الإنسانية، وخطورة الاعتداء عليها بمختلف الأشكال، وضرورة غرس هذه القيم في نفوس أبنائنا، الأمر الذي يعتبر أساسيا في سبيل صيانة الأرواح وحفظ النفوس.

وسوف أختصر هذه الرسائل في نقاط محددة، على أن أقوم بتفصيلها في مقالات قادمة إن شاء الله.

أولا: إن جريمة القتل، والاعتداء على حياة الأبرياء، جريمة لا تكاد تساويها في الفظاعة أية جريمة أخرى، وهي تتنافى مع الطبيعة الإنسانية، والفطرة السويّة، كما تأباها العقول السليمة، وترفضها الأديان القويمة، وتحاربها الشرائع المستقيمة.

ثانيا: جاء الإسلام ليؤكد على قدسية الروح البشرية، ويرسخ احترام الحياة الإنسانية، كاشفا عن حرمة الدماء البريئة، وخطورة الاعتداء عليها، ويضع في سبيل ذلك من التشريعات ويفرض من العقوبات، الدنيوية والأخروية، ما يردع عن التعرض لها بغير حقّ.

وفوق ذلك، حرصت الشريعة الإسلامية على إغلاق جميع الأبواب التي قد تؤدي إلى انتهاك حرمة الحياة، وسدّ مختلف الذرائع التي ربما تفضي إلى إزهاق الروح، تحقيقا لمبدأ (حفظ النفس) الذي يعتبر من المقاصد الكبرى الأساسية للتشريع الإسلامي.

ثالثا: القتل لا مبرر له: فبغض النظر عن الدوافع والأسباب، فإن القتل يبقى جريمة كبرى، ولا يمكن، بل ولا يجوز، تبريرها بأي سبب من الأسباب، ما لم يكن على سبيل العقوبة للمجرمين، ومواجهة المعتدين، ودفع فساد المفسدين، وفق القانون العادل، والتشريع المنصف، كما قال تعالى: “من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا”[5].

رابعا: إن العنف الأسرى، والاستقواء على الضعفاء، خاصة الأطفال والنساء، لهوَ من أخطر الممارسات التي يجب علينا التصدي لها، وينبغي أن يتعاون المجتمع بأكمله، أفرادا ومؤسسات في مواجهة هذه الظاهرة، ووضع حدّ لها.

إن دور الوالدين، وخاصة الأب، في الأسرة، هو توفير الرعاية، وتقديم الحماية لمن يحتاجها من أفراد الأسرة.

وإن الأب بالذات، يعتبر رمزا للأمان، يلجأ إليه أفراد الأسرة، خاصة النساء والأطفال، عندما يستشعرون خطرا يتهددهم، أو أذى يمكن أن يلحق بهم.

أما أن يتحول الوالدان، وخاصة الأب، إلى مصدر خطر يتهدد أفراد العائلة، فهذه من أخطر الانتكاسات التي لا يجوز للأسرة ولا للمجتمع التغافل عنها أو التهاون بها.

خامسا: الزواج رباط مقدس، وميثاق غليظ، تبنى به الأسرة وفق المنهج السليم، على كتاب الله وسنة رسوله (ص)، ولذلك فإنه ينبغي أن يقوم على المودة، والرحمة والاحترام المتبادل، فإذا اختلت هذه الموازين فربما يكون الانفصال هو الخيار الأفضل، كما قال تعالى: “وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته”[6]، وقد شرع الإسلام الطلاق والخلع كمخرج للطوارئ في حال تحول الحياة الزوجية والأسرية إلى جحيم يحترق به كل أفراد العائلة، وقد يتهدد حياتهم ويشكل خطرا على وجودهم ومستقبلهم.

ونحن نعلم أن العديد من الأزواج والزوجات ربما يحتملون ما لا يُحتمل، من ضنك العيش وسوء المعاملة، في سبيل التضحية من أجل أبنائهم، بغيةَ الحفاظ على تماسك العائلة، وصيانة سمعتها، وهذا أمر حسن ومقدّر، بل ومطلوب ومرغّب فيه، ولكن لا إلى الحدّ الذي يعرض أفراد العائلة للخطر، أو يتسبب في تهديد حياتهم. بل في مثل هذه الحالة يجب التصرف بحزم، ووضع حدّ للاعتداء أيا كان مصدره.

سادسا: إن التربية السليمة، وما تتضمنه من غرس القيم الحميدة؛ والتي على رأسها مخافة الخالق، واحترام الحياة، واستشعار خطورة الاعتداء عليها، تعتبر من أهم أسباب حفظ المجتمع، وواحدة من أبرز الوسائل التي تُسهم في منع وقوع الجرائم المتنوعة، خاصة ما يتعلق بالعنف والاعتداء على الآخرين.

وفي المقابل، فإن غياب مثل هذه التربية الصحيحة، سيؤدي – لا محالة – إلى تشكل العقد النفسية، وتخلّق المشاكل الأخلاقية، التي تتولد في مرحلة النشأة، وقد لا تظهر آثارها المدمرة إلا بعد عشرات السنوات.

سابعا: إن اقتناء السلاح، وإن كان حقا يكفله القانون في هذه البلاد، يعتبر مسؤولية كبيرة، لا يجوز للإنسان التهاون بشأنها بحال من الأحوال.

فاقتناء السلاح هدفه حماية الإنسان لنفسه وعائلته وممتلكاته ممن قد يقصده بالاعتداء على شيء من ذلك، لا أن يُستخدم في الاعتداء على الأبرياء، وإزهاق الأرواح، فكيف إذا استخدمه صاحبه في العدوان على من كُلف بحمايتهم ورعايتهم؟!

ولذلك فإن من علم من نفسه عدم القدرة على التحكم بانفعالاته، وعدم التمكن من السيطرة على غضبه، يجب عليه أن يتخلص من هذا السلاح، ويسلّمه للجهات المختصة، كي لا يتحول في يده إلى أداة قتل وإجرام، يخسر بسببها دنياه وآخرته.

كذلك، فإن من واجب من يمتلك سلاحا، أن يحافظ عليه في موضع آمن، بعيدا عن متناول كل من قد يسيء استخدامه، أو يكون غير مؤهل أو مخول باستعماله.

ثامنا: إن أبوابنا، في مسجد أورلاند بارك، وسائر المساجد والمراكز الإسلامية، مفتوحة دائما لتقديم العون والمشورة لأبناء وبنات مجتمعنا، ولن نتوانى عن تقديم أية مساعدة ممكنة في سبيل رعاية مجتمعنا، وحماية أبنائنا وبناتنا، والمساعدة على الإصلاح وحلّ الخلافات والمشاكل الزوجية والأسرية.

كما أننا قد عملنا، ولا زلنا نسعى في الارتقاء بمجتمعنا، معرفيا وأخلاقيا، من خلال العديد من الأنشطة التوعوية والتثقيفية والتعليمية، وخاصة فيما يتعلق بمجالات الحياة الزوجية والأسرية.

تاسعا: إن حفظ الأعراض وصيانتها لا يقل أهمية عن حفظ الدماء وحمايتها، وإن الاعتداء على عرض المسلم ليس أقل خطرا من العدوان على حياته، وقد قال (ص): “المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه”[7].

ولذلك فإننا نتوجه بالنصيحة إلى إخواننا وأخواتنا بتجنب تناقل الأخبار الكاذبة، وترويج الإشاعات المغرضة، ونشر الأقوال المرسلة، واختلاق القصص المزعومة، حول وقائع ودوافع هذه الحادثة، وغيرها من الحوادث، وعدم السير وراء الظنون والتوهمات، التي حذرنا منها الرسول (ص) حيث قال: “إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا”[8].

ختاما: ندعوا بالرحمة والمغفرة لأخواتنا وبناتنا، ماجدة، وحليمة، وزهية، وحنان قاسم، ونسأل الله أن يكرم نزلهنّ، وأن يحسن مثواهنّ، وأن يكتب لهم بما أصابهنّ أجر الشهادة، وأن يرفع لهنّ الدرجات في دار السعادة، هنّ وجميع أمواتنا وشهدائنا وأموات وشهداء المسلمين أجمعين. آمين.

الشيخ الدكتور هيثم زماعرة

[1] المائدة: 32.

[2] تم نشر تفاصيل هذه الجريمة المروعة على العديد من شبكات البث والمواقع الإعلامية. أنظر على سبيل المثال:

https://www.fox32chicago.com/news/tinley-park-murders-new-details-revealed-man-kills-family

https://abc7chicago.com/tinley-park-shooting-today-news/14347041/

[3] منشور حول الحادثة، للشيخ كفاح مصطفى، إمام ومدير مركز الصلاة – أورلاند بارك، على صفحته على (فيسبوك).

الرابط:

https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=pfbid025KwCm85FSrchKSkwjYUnqkUBAVCfmegT9vMToDt2ZzPkQKccpSFFfKjJAp8TTNrVl&id=597008744

[4] على سبيل المثال: على إثر المجزرة المروعة التي وقعت في مدرسة روب Robb الابتدائية في بلدة أوفالدي Uvalde بولاية تكساس ظهيرة يوم 24 مايو 2022 والتي نتج عنها مقتل 21 شخصا من بينهم 19 طفلا في المرحلة الابتدائية، قمت بالتطرق لهذه الحادثة المأساوية، ولمثيلاتها من الجرائم المروعة التي راح ضحيتها العديد من الأبرياء في الولايات المتحدة، وذلك في خطبة الجمعة التالية، وفي مقالتي الشهرية في مجلة (البصيرة)، التي يصدرها مركز الصلاة – أورلاند بارك، تحت عنوان: (بأي ذنب قتلت؟!).

وبالإمكان الرجوع للمقالة على الرابط:

https://orlandparkprayercenter.org/for-what-reason-were-they-killed/#_ftn1

[5] المائدة: 32.

[6] النساء: 130.

[7] أخرجه البخاري في صحيحه (6064) مختصرا، ومسلم في صحيحه (2564).

[8] أخرجه البخاري ومسلم.

.

Sign up for our email list!

Sign up to get the monthly Insight E-News, Programs & Events Announcements, as well as Ramadan and Eid information delivered to your inbox.

Accessibility Toolbar