لن أكون ظهيراً للمجرمين
مقدمة
نِعم الله كثيرة تعصى على الإحصاء، “وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها” (النحل: ١٨)، ولو أفنى المرء عمره كله لأداء شكر نعمة واحدة من نِعم الله ما شكر الله حق شكره، وما أدى الله حق الأداء. وعجزنا عن أداء الشكر لا يعني الانصراف عنه، بل المداومة عليه؛ والثبات فيه؛ ف”لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد” (إبراهيم: ٧).
ومن نِعم الله التي تستوجب الشكر أن نشهد شهر الله الحرام رجب، إذ لهذه الأشهر قيمتها عند الله، وحق هذه الأشهر الحرم أن تكون فرصة لتصويب المسار: شهر رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم، يقول الله فيها “فلا تظلموا فيهن أنفسكم” (التوبة: ٣٦). ومما يستوجب شكر نعمة شهر الله رجب، أنه يؤذن بقرب موسم الخيرات في شهر رمضان، وهذي نعمة ثمينة، وحسب شهر رجب فخراً أن يكون جاراً لجار شهر رمضان المبارك؛ جاراً لشهر شعبان المبارك.
لعلنا في هذا المقال نجد الرابط بين الآية التي تتحدث عن نعم الله الكثيرة وبين ظلم النفس، وكيفية تحقيق ذلك من خلال قصة موسى عليه السلام كما قصها الله في سورة القصص.
قصة موسى
وُلد موسى عليه السلام وكتب الله أن يعيش في حين قَتَل فرعون كل مولود في ذلك العام، وأكرمه الله بأن يشتد عوده في قصر فرعون، ويؤتى الحُكم والعلم: “وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَٱسۡتَوَىٰٓ ءَاتَيۡنَٰهُ حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ” (القصص: ١٤)، وفي يوم من الأيام وهو يسير في طرقات المدينة، إذ يستجير به واحد من قومه المستضعفين من بني إسرائيل، الذي عانوا الأمرين من فرعون وقومه، يستجير به لنجدته من قبطي من قوم فرعون، فوكز موسى عليه السلام ذلك القبطي فمات من فوره! “وَدَخَلَ ٱلۡمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفۡلَةٖ مِّنۡ أَهۡلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيۡنِ يَقۡتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِۦ وَهَٰذَا مِنۡ عَدُوِّهِۦۖ فَٱسۡتَغَٰثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِۦ عَلَى ٱلَّذِي مِنۡ عَدُوِّهِۦ فَوَكَزَهُۥ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيۡهِۖ قَالَ هَٰذَا مِنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِۖ إِنَّهُۥ عَدُوّٞ مُّضِلّٞ مُّبِينٞ (القصص: ١٥). لما أدرك موسى عليه السلام فداحة القتل، رغم أنه تم عن غير قصد منه قال: “رَبِّ إِنِّي ظَلَمۡتُ نَفۡسِي فَٱغۡفِرۡ لِي فَغَفَرَ لَهُۥٓۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ” (القصص: ١٦). وهذا الرابط مهم جداً لمفهوم ظلم النفس؛ إذا أن ظلم النفس يكون بالمعصية على تفاوت درجاتها، أعلاها الشرك بالله، ومن أعظمها القتل كذلك. وبعد مغفرة الله لموسى عليه السلام، ألهمه الله أن ينطق بمبدأ نفيس حقيق بنا أن نتعلمه وأن نعمل به: “قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ فَلَنۡ أَكُونَ ظَهِيرٗا لِّلۡمُجۡرِمِينَ” (القصص: ١٧).
الدرس البليغ
نعمة الله عليك ينبغي أن تكون بمثابة قائد لك نحو الصواب؛ فما يرضي الله تفعله، وما يغضبه تتجنبه، وهذه حقيقة الشكر، ليس فقط التلفظ بها دونما برهان، وقد أمر الله آل داوود بعد إكرامهم بالمزيد من النعم والعطايا بالشكر بالعمل: “اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا” (سبأ: ١٣)، فالشكر عمل، ومن وافق قولُه عملَه كان شاكراً، ومن خالف كان مُدعياً.
وحق الله عليك بعد إنعامه عليك أن تكون نصيراً للحق، ترفع الظلم عن المظلومين، وأن تكون جندياً للعدالة أينما كانت، حتى مع من خالفوك: “وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى” (المائدة: ٨).
وهذا ما نستخلصه من قصة موسى عليه السلام، وقوله المنثور ذهباً ونور؛ أنعم الله عليك بالنعم، فتعرَّفْها وقدرها حق التقدير، واشكرها حق الشكر، وتقديرها وشكرها بأن تكون نصيراً للحق، عوناً للمظلومين، لا بيدقاً للظالمين!
نصرتك للحق ليست فقط من أجل إخوانك في شتى بقاع الأرض، أو أي أحد مظلوم، بل هي من أجلك أنت بالدرجة الأولى، دفاعك عن الحق تثبيت لنعمة الله عليك وشكر لها، “لئن شكرتم لأزيدنكم” (إبراهيم: ٧)، والإعراض عن نصرة الحق علامة النكران لنعمة الله، وهذا إيذان عقاب والعياذ بالله: “ولئن كفرتم إن عذابي لشديد” (إبراهيم: ٧).
وكتبه الشيخ جعفر حوى