كلكم مسؤول
الحمد لله رب العالمين، خلق الإنسان وصوّره، ثمّ جمّل صورته، وأحسن خُلُقه.
والصلاة والسلام على البدر المنير وصاحب الخلق العظيم وعلى آله وصحبه أجمعين.
إنّ من نِعَمِ الله على عباده المؤمنين أنْ أرسل إليهم رسولاً من أنفسهم، عزيزاً عليهم، ورؤوفاً رحيماً بهم، قال تعالى: “لقد جاءكم رسول من أنفُسِكُمْ” وفي رواية: “لقد جاءكم رسولٌ من أنفَسِكُم”، فلم تعُدْ تدري أي المعنيَيْن أجلّ وأرفع وأقدر في ذات المؤمن المُخلِص.
وإذا كان هذا التشريف والفضل هو للمؤمن التقي، فلا بُدَّ أن يكون عمله كلّه لردّ الجميل إلى صاحب الشرف المكين، ومِنْ قبلِه إلى من بعث محمّداً الأمين. فمن كان صاحب خلق عظيم في صِغر سنّه وكبره، قبل الدعوة وبعدها، أوجب على أتباعه أن يكونوا على صراطه وهدايته واستقامه. والله جلّ جلاله أدّب نبيّه وأحسن تأديبه، يقول عليه الصلاة والسلام: “أدّبني ربّي فأحسن تأديبي”.
لقد كان رسول الله بخلقه المحمود داعياً لطيفاً، ومرشداً حليماً، وأميناً حكيماً على ديننا وأخلاقنا وتربيتنا. لم يترك أمرَ خيرٍ إلّا أرشدنا إليه، وما ترك أمر شرٍّ إلّأ وحذّرنا منه. ورؤية رسول الله المستقبلية البعيدة ونظرته العميقة إلى حاضر الأمور وقادمها وتابعاتها سديدةٌ ثاقبة. كان يعلم -عليه السلام- أنّ زمناً من الفساد والبغي والضياع سيصيب أمّته إلّا طائفة قد رحمها ربّه. فترك لهم حبل النجاة ووسيلة الخلاص، ما إنْ تمسكت بهما أمّته إلا نَجَتْ وانتصرت: القرآن والسنّة. وكان ممّا أضاء عليه جليّاً وسلّط عليه قولاً وعملاً: كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيّته…
ولمّا كانت التربية الحسنة واجباً ووصيّةً من الله ورسوله، جاء النصّ القرآنيّ ليرسم نموذجاً خالصاً من كلّ العيوب والمساوئ، شاملاً كل المحاسن والمآثر، فقد زكّى الله حبيبه بأن جعله القدوة والأسوة الحسنة التي ينبغي على المسلم الاقتداء بها والاهتداء بنورها: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً.
تُربكني وتُغيرُ عليَّ بعظمتها شخصيّةُ الصحابي “أسامة بن زيد” حين قاد جيش المسلمين وهو ابن 18 عشر عاماً، وكان من بين المحاربين في جيشه كبار الصحابة. كيف لابن الثامنة عشر أن يتّخذ قرار السلم أو الحرب، الرحيل أو المبيت، التقدّم أو الترّاجع، النزول والمبيت! كيف كان يختار المكان المناسب ومواقيت السير ومباغتة العدو ورصد تحركاته! مِن أين له بالحنكة العسكرية وهو لم يبلغ من العمر ما بلغه معظم المحاربين في جيشه! مَن الذي زرع فيه هذه الثقة وأولاه هذه المهمّة الجبّارة؟! كيف لشابٍ يافعٍ أن يخرج بأوامر لمحاربين من بينهم صحابةٌ كِرامٌ أكبر منه سنّاً وأرفع منه قدراً ومقاماً في ذات رسول الله!
وهذا سعد بن أبي وقاص لم يكد يبلغ من العمر 17 عاماً حتّى كان أوّل من رمى سهماً في سبيل الله. وكيف لنا أن ننسى الزبير بن العوام -صاحب الأعوام العشر ونصفها- حين كان أوّل من سلّ سيفاً في سبيل الله.
لقد تخرّج هؤلاء من مدرسةٍ قدوتها ومديرها وأستاذها والمرشد فيها والقائم عليها سيدنا رسول الله -عليه الصلاة والسلام-. ربّى فأحسن التربية، فكان تلاميذه كباراً رغم صِغَرِ سِنّهم.
وإذا كان قلبي يفرح بأمثال أسامة والزبير وسعد، فإنّه ليحزن ويغتمّ ويأسف لحال اليافعين والناشئين من أبناء الجيل المسلم اليوم. ترى الواحد منهم يلهو ويضيع الوقت الطويل في المُلهيات والمنكرات، وفي توافه الأمور ومفاسدها.
يدخل رمضان بقدسيّته وروحانيّته ومُغرياته وعروضه الإيمانيّة الخاصة ليكون جسر عبورٍ إلى محطّة هناء وصفاءٍ وأمان، بل ليكون نفحةً يلتمسُ بها المؤمن روحه بين أروقة الأرض المُتّصلة بنورٍ من نور السماء. لكنّ بعض المسلمين، الآباء منهم والأبناء -وللأسف- يُصِرّون أن يتّخذوا من الشيطان رفيقاً وخليلا. فمن المسلسلات إلى السهرات الممتلئة بالغيبة والنميمة، إلى النوم عن الصلاة، والغضب، وسب الربّ. والمفسدون يتربّصون بالإسلام أيّما تربّص، ينشرون المفاسد والملاهي في كلّ زاوية حتّى لا يكاد الإنسان يجد منطقة آمنةً على مواقع التواصل الاجتماعي وأماكن التجمّع العامة مالطرقات والأسواق. في كلّ مكانٍ هناك فتنة تترصّد المسلمين لإغوائهم وإيقاعهم في حبائل مكائدهم النتنة الخبيثة.. وبعد هذا كلّه، يعيش المسلم رمضان وكأنّه شهرُ متعة للدنيا، لا شهر عملٍ واجتهادٍ من أجل مُتعةِ الآخرة. يا للأسف…
وليس العِلة فيهم فحسب، فلو أنّ للشاب أو اليافع أهلاً أخذوا به حقّ الأخذ إلى ما أراده الله منه ووصّاهم به، لما وصل كثير من الشاب المسلم إلى هذه الحال. ولكن واقع الحال يُنبيك أنّ بعض الأهل يحتاجون للتربية السليمة، فكيف يصلح الغصن إذا كان الجذع فاسداً!
لا نريد منهم أن يكونوا صحابةً، بل أتمنى أن يكونوا مهتمّين بدينهم، يحملون رسالته، ويرفعون رايته، ويهتدون بهدي نبيّهم… ليذهبوا إلى حلقات الذكر والقرآن والكلم الطيب، ليغتنموا أوقاتهم بالعمل الصالح فه سيكون زادهم حين تنتهي المسيرة، ليقضوا أوقاتهم في أماكن وأعمال يحبّها الله ورسوله. فليجتهدوا ليكونوا خلفاء أسامة وسعد والزبير…
يقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في تفسير قوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غِلاظٌ شِداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون”، يقول -كرّم الله وجهه-: “علّموا أنفسكم وأهليكم الخير”.
بلال شرف الدين