الإسرافُ والتَّبْذير
إن الحمد لله نحمدُهُ ونستعينُهُ، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إِله إِلاَّ الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ.
إنَّ تقوى الله تعالى لا تَتِمُّ للعبد إلا بالأخذ بمكارم هذه الشَّريعةِ وفضائلِها علمًا، وامتثالِها في الحياة واقعاً وعملاً.
إنَّ من فضل الله تعالى علينا أن شرَعَ لنا ديناً قيماً، وجعلنا بين الأُمم أمَّةً وسطاً، وسطاً في الأحكام والشرائع، ووسطاً في الآداب والفضائل، فالحمدُ لله على ذلك كثيراً كثيراً، وشكرا ًله بكرةً وأصيلاً.
إنَّ من معالم تلك الوسطيةِ المباركةِ ما ذكره اللهُ تعالى في كتابه عند ذكر صفاتِ أحبابِه، والخُلَّصِ من عباده، قال تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾؛ أي: كانوا في نفقاتهم الواجبة والمستحبة على العدل والوسط، لا وكْسَ ولا شطَطَ . فعبادُ الرحمن هم الحكماءُ العدولُ في نفقاتِهم، لا يتجاوزون ما حدَّه الله وشرعه، ولا يُقَصِّرون عما أمر به وفرضَه.
إنَّ الناظر في أحوال كثيرٍ من الناس اليومَ يرى ويشهدُ غيابَ هذه الخَصْلةِ عن جوانبَ عديدةٍ من حياة الناس، فكم همُ الذين تورَّطوا في الإسراف والتبذير في جميع الشؤون والأمور، إسرافٌ في المآكل والمشارب، إسرافٌ في الملابس والمراكب، إسرافٌ في الشهوات والملذَّات.
إنَّ الله ﷻ قد نهى عن الإسراف والتبذير في آياتٍ كثيرةٍ، فقال تعالى: ﴿وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾، وقال جلَّ ذكرُه: ﴿وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً﴾، وقال سبحانه: ﴿وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً﴾، وقال تعالى: ﴿وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾.
وقد نهى النبي ﷺ عن الإسراف في الأمر كُلِّه، فنهى عن الإسراف في المآكل والمشارب والألبسة، بل ونهى عن الإسراف في الصَّدَقاتِ، فقال ﷺ في حديث عمرو ابنِ شُعيبٍ عن أبيه عن جدّه: «كُلوا واشربُوا وتَصدَّقوا والبسُوا منْ غيرِ سَرَفٍ ولا مَخِيلةٍ»، وقد نهى ﷺ عن الإسراف في الوضوء، ذكر النسائيّ وابنِ ماجَه أنَّ النبيَّ ﷺ توضَّأ ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: «هكذا الوضوءُ، فمن زادَ عن هذا فَقَدْ أساءَ وتعدَّى وظَلَمَ»، قالَ الإمامُ البخاريُّ رحمَه اللهُ: ((كَرِه أهلُ العلمِ الإسرافَ فيه؛ أي: في الوضوءِ– وأنْ يجاوِزُوا فعلَ النبيِّ ﷺ)) .
إنَّ اللهَ ﷻ أنعم عليكم نِعَماً عظيمةً كثيرةً، فكان من ذلك أن أغناكم بعد فَقْرٍ، وأطْعَمَكم بعد جُوعٍ، وهداكُم بعد ضلالة، وفتحَ لكم من أبوابِ الخير، وسُبُلِ الرِّزقِ، مالم يكن لكم على بالٍ، فاشكُروا الله تعالى على ذلك حقَّ شُكْرِه، واعلموا أنَّ ذلك كلَّه لا يُغنِيكم عن فضله ومَنِّه.
إنَّ ما تُصَابُ به النفوسُ عند الغِنى وكَثْرةِ العَرَضِ ووفرة المال؛ التجاوزُ والطغيانُ، قال الله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾، وصدق الله العظيمُ، فإنَّه لما فُتِح علينا من الدُّنيا ما فُتِحَ، وتوالى على كثيرٍ مِنَّا النِّعَمُ ؛ اغترَّ فِئامٌ (جماعة) من الناس فطغَوْا وتجاوزوا حدود الله تعالى، فأسرفوا وبذَّروا وتخوَّضوا في مال الله بغير حقٍّ، فظهرَ في حياة الناس مظاهرُ الإسرافِ والتبذير.
فمن هذه المظاهر ومن تلك المعالم التي تورَّط فيها كثيرٌ من الناس اليومَ الإسرافُ في المآكل والمشارب، فترى من الناس من يجتمعُ على مائدته من ألوان الطعام وصُنوفِ الشراب ما يكفي الجماعةَ من النَّاس، ومع ذلك لا يأكلُ إلا القليلَ من هذا وذاك، ثم يلقي باقِيَه في الفضلاتِ والنفايات. فليتَ شعري!!، أنَسِيَ هؤلاءِ الـمُسْرِفون أم تناسَوْا أنَّ من الناس أُمَماً يموتون جوعاً، لا يجدون ما يسدُّون به حرارةَ جوعِهم، ولظى عَطَشِهم؟!، أم نسِيَ هؤلاء قول الله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾. قال ابنُ القيِّمِ رحمه اللهُ: ((والنعيمُ المسؤولُ عنه نوعان: نوعٌ أُخِذ من حِلِّه وصُرِفَ في حَقِّه، فيُسْألُ عن شكرِه، ونوعٌ أُخِذَ بغير حِلِّه، وصُرِفَ في غيرِ حقِّه فيُسألُ عن مُسْتخْرَجِه ومَصْرَفِه)) .
إنَّ من معالم التبذير في حياة الناس اليومَ الإسرافُ في المراكب والملابس والمساكن، فتجِدُ أقواماً تحمَّلوا الديونَ العظيمةَ، وأَرْهَقُوا ذِممَهم وشَغَلوها؛ ليحصلَ أحدُهُم على السيارة الفلانيَّة، أو الثوبَ الفلانيّ، أو المسكنِ الفاخر، تكاثُرٌ وتفاخُرٌ، سَفَهٌ في العقل، وضلالٌ في الدِّينِ، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
إنَّ من الإسراف المذموم ما يفعله كثيرٌ من حُدَثاءِ الأسنانِ، أو سُفَهاءِ الأحلام، من إضاعة الأوقات وتبديدِها في الملاهي والملذَّاتِ والشهوات، فتجدُ الواحدَ من هؤلاء يصرفُ عُمُرَه، وخاصة نشاطَه وفكرَه ووقتَه في لهوٍ ولَعِبٍ وسهَرٍ وتسليةٍ، لا في عملِ دنيا يَنتفعُ به، ولا عملِ آخرةٍ ينجو به.
إنَّ من الإسراف والتبذير الإسرافُ في استخدام المرافق الحيوية التي تقومُ عليها حياةُ الناس اليومَ، من ماءٍ وكهرباءٍ ونحو ذلك؛ فالماءُ الذي هو أرخصُ موجودٍ وأعزُّ مفقودٍ يُهدَرُ بالكميات الكبيرة الهائلة، بلا عتابٍ ولا حسابٍ، وكأَنَّنا نعيشُ على ضفافِ أنهارٍ، لا تتوقفُ، وآبارٍ لا تنضُبُ!.
ولا شكَّ أن الواقعَ المرير الذي نعيشُه يخالفُ ما جاءت به شريعةُ أحكم الحاكمين، فإنَّ النبي ﷺ نهى عن الإسراف في الماء، ولو كان استعمالُه في عبادةٍ فضلاً عن غيرها، فاتقوا الله عباد الله، وتعاونوا جميعاً على ترشيد هذا الأمر، فإنَّ قِلَّةَ المياه وشُحَّها أحدُ التَّحَدِّياتِ الكبرى لكثيرٍ من دول العالم اليومَ، فإن لم نكن على وعيٍ بهذا الأمر يوشِكُ أنْ نقعَ فيما لا تُحمدُ عقباه.
أمَّا الإسرافُ في الكهرباء فذاك أمرٌ قلَّ من ينجو منه، فكم هُمُ الذين يضعون في بيوتهم أو متاجرهم أو مجالسهم من الإضاءة أو التكييف ما يزيدُ على حاجةِ المكانِ . وكم هُمُ الذين لا يُطفَأُ لهم نورٌ في ليلٍ أو نهارٍ، فاتَّقوا الله أيها المؤمنون، فإنَّ اللهَ ورسولَه ينهيانِكُم عن ذلك.
إنَّ من أعظم التبذير أنْ تستعملَ المالَ الذي تفضَّلَ اللهُ به عليك في معصية الله تعالى، فالله ﷻ يُنعِمُ عليك ويتفضَّلُ، وأنت تخالفُه وتحادُّه!! ، قال الله تعالى: ﴿وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً﴾، قال قتادةُ رحمه الله: ((التبذيرُ هو النفقةُ في معصيةِ اللهِ، وفي غيرِ الحقِّ، وفي الفسادِ)).
فإنَّ الإسراف والتبذير داءٌ فتَّاكٌ، يهدّدُ الأممَ والمجتمعاتِ، ويبدّدُ الأموالَ والثرواتِ، وهو سببٌ للعقوبات والبليَّاتِ، العاجلةِ والآجلةِ.
فمن ذلك أن الإسرافَ سببٌ للتَّرَفِ، الذي ذمَّه اللهُ تعالى وعابَه، وتوعَّد أهلَه في كتابه، إذ قال تعالى: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ* لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ* إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ﴾، قال ابنُ كثيرٍ رحمه الله: ((كانوا في الدارِ الدنيا منعَّمِين مُقْبلين على لذَّاتِ أنفسِهم))، فإيَّاكم أن تكونوا من الـمُـتْرَفِين.
التبذيرُ والإسراف سببٌ يؤدّي بصاحبه إلى الكِبْرِ وطلب العُلُوِّ في الأرض، قال ﷺ: «كُلُوا واشرَبوا وتصدَّقوا من غيرِ سَرَفٍ ولا مَخِيْلةٍ» رواه البخاري، فالحديثُ يدلُّ على أنَّ الإسرافَ قد يستلزمُ المخْيَلةَ، وهي الكِبْرُ .
إنَّ الإسراف والتبذير يؤدِّي إلى إضاعة المال، وتبديد الثَّروة، فكم من ثروةٍ عظيمةٍ وأموالٍ طائلةٍ، بدَّدَها التبذيرُ، وأهلكها الإسرافُ، وأفناها سوءُ التدبيرِ.
فاتَّقوا الله عباد الله، فإنَّ الله نهاكُم عن إضاعةِ المالِ، ففي حديث المغيرةِ رضي الله عنه قال: سمعنا رسول الله ﷺ يقولُ: «إنَّ اللهَ كَرِه لكم ثلاثاً: قِيلَ وقَالَ، وإضاعةَ المالِ، وكثْرةَ السؤالِ» رواه البخاري ومسلم .
والإسرافُ إضاعةٌ للمالِ، وتخوُّضٌ فيه بغيرِ حقٍّ، قال ﷺ: «إنَّ رجالاً يتخوَّضُون في مالِ اللهِ بغيرِ حقٍّ، فلهُمُ النَّارُ يومَ القيامةِ» رواه البخاري، وهذا كما قالَ اللهُ تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾.
إنَّ الإسراف سببٌ من أسباب الضَّلال في الدّين والدنيا، وعَدَمِ الهِدايةِ لمصالح الـمَعاشِ والمعادِ، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾، وقال سبحانه: ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ﴾، وقال سبحانه: ﴿كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ .
إنَّ من عقوبة الله تعالى للمسرفين أن جعلهم إخواناً للشياطين، فقال سبحانه: ﴿وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً﴾، واعلموا أنَّ الإسرافَ يشمَلُ جميعَ التَّعَدِّيَّاتِ التي يتجاوزُ بها العبدُ أمرَ اللهِ وشرعَه، سواءٌ كان ذلك في الإنفاقِ أو في غيره، فتوبُوا من الإسراف كلّه، فإنَّ الله دعاكم إلى ذلك، فقال: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ﴾.
فلنتَّقِ اللهَ ولنتُبْ إليه من التَّفريطِ والتَّقصيرِ، ولنَعُدّ للسُّؤالِ جواباً، فإنَّ اللهَ سائلُنا عن هذا المال: من أينَ اكتسبناه؟، وفيمَ أنفقناه؟.
وكتبه الشيخ مروان عبد الرحمن كصك