رحلة الحجّ عبر العصور – منذ بدء الخليقة إلى عصر الإسلام
د. هيثم زماعرة
لا تكاد تجد موضعا تهفوا إليه قلوب المسلمين، كما تهفوا إلى البيت الحرام، ومشاهده المقدسة، ولطالما تحمل المسلمون المشاقّ، وبذلوا الغالي والنفيس، بغية الوصول إلى تلك الرحاب المطهرة، وخوض تلك الرحلة الإيمانية الرائعة، وشهود ما يتخللها من المناسك والشعائر والمشاعر، وأداء ما تتضمنه من القربات والطاعات في رحاب بيت الله الحرام وأكنافه.
على أن هذه الرحلة – أعني رحلة الحج – قد مرت عبر التاريخ القديم والحديث، بالعديد من المراحل والمحطات، التي كان بعضها بهيجا مشرقا، وبعضها الآخر كئيبا مظلما، ولكنها في مجموعها تشكل تاريخ هذه الشعيرة العظيمة، وهو ما سأتطرق إليه في هذه المقالة.
مبدأ تاريخ رحلة الحجّ والكعبة المشرفة:
إن ارتباط شعيرة الحج بالكعبة البيت الحرام، ارتباطا لا انفكاك فيه، يتطلب منا دراسة تاريخ الكعبة من أجل التعرف على تاريخ شعيرة الحج نفسها.
ورغم تصريح القرآن الكريم بأن الكعبة كانت أول بيت قد وضع لعبادة الله تعالى في الأرض “إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ” (آل عمران: 96)، إلا أن العلماء المسلمين قد اختلفوا في مبدئ وجودها، وأول من بناها، فمنهم من قال إن الملائكة هي التي بنتها أول مرة، وهو المشهور عند أصحاب السير والأخبار، ومنهم من قال إن أول من بناها هو آدم عليه السلام، ومنهم من قال إنه إبراهيم عليه السلام، ثم توالت عليها عمليات البناء والتجديد والترميم عبر العصور، وصولا إلى عصرنا الحاضر.
وأيا ما يكن، فالذي تدل عليه الأحاديث والآثار، أن موضع الكعبة كان مكانا معروفا، يقصده الناس للعبادة، قبل إبراهيم عليه السلام بعصور، وقد ورد في بعض الآثار أن آدم ونوحا وهودا وصالحا قد حجوا البيت الحرام، وقصدوه ملبين، بل صرح بعض العلماء بأنه ما من نبي إلا وقد حجّ البيت، بل تفيد بعض المرويات أن الملائكة هي أول من أدى هذه العبادة، قبل مبدأ وجود الإنسان نفسه على هذه الأرض.
إلا أن الثابت بالنصوص والأدلة الشرعية: أن أول من نادى بالحجّ، بعد بناء الكعبة، أو تجديد بنائها – بناء على القول إنها بنيت قبله – هو إبراهيم عليه السلام، كما صرح بذلك القرآن الكريم “وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ” (الحج: 26-27)، “وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ” (آل عمران: 127). وبذلك يمكن القول إن هذه هي أول بداية مؤكدة لهذه الشعيرة عبر تاريخها، وما قبلها يبقى في دائر الظن والاجتهاد.
الحج بعد إبراهيم عليه السلام:
استمرت رحلة الحج إلى البيت الحرام بعد إبراهيم عليه السلام دون انقطاع، بل تفيد بعض الأحاديث والآثار قيام عدد من الأنبياء والرسل بهذه الرحلة المقدسة، كموسى ويونس عليهما السلام.
لكن هذه الشعيرة قد طالها ما طالها من التحريف والتبديل، وأدخل عليها ما ليس منها من الممارسات المخالفة للحج الإبراهيمي الحنيف؛ مثل إحاطة الكعبة بالأصنام، وإشراكها في التلبية مع الله، وطواف بعض الناس بالبيت عراة، وتحويل الطواف إلى مكاء وتصدية، وتجنّب قريش الوقوف والإفاضة مع الناس من عرفات، ووقوفهم بمزدلفة، إضافة إلى نسئ الأشهر الحرم، والتلاعب بمواقيت هذه العبادة.
وقد عاش النبي محمد (ص)، بحكم مولده ونشأته في مكة، الردح الأكبر من حياته، سواء قبل البعثة أو بعدها، ضمن هذا الجوّ المثخن بالممارسات الجاهلية، التي وجدت طريقها إلى شعيرة الحج، ورغم أنه كان يشاركهم أداء شعيرة الحجّ التي اعتادوا المواظبة عليها، إلا أنه لم يكن يتابعهم فيما حرفوه من مناسك الحج، وقد روى جبير بن مطعم (رض) حادثة تؤكد ذلك، حيث أضلّ بعيرا له يوم عرفة، فخرج يطلبه حتى بلغ عرفات، فرأى النبي (ص) واقفا بعرفة، فقال: هذا والله من الحمس، فما شأنه هاهنا؟” (البخاري 1664)، أي أنه كان يقف في موقف إبراهيم عليه السلام، كما كانت تفعل سائر طوائف العرب، ولم يوافق قريشا في وقوفهم بمزدلفة.
قال القرطبي: وقد حج النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ – قبل حج الفرض، وقد وقف بعرفة ولم يغير من شرع إبراهيم ما غيروا. حين كانت قريش تقف بالمشعر الحرام ويقولون: نحن أهل الحرم فلا نخرج منه، ونحن الحمس -المتشددون في الدين. (تفسير القرطبي (4/143).)
وفي تحديد عدد مرات حجه – صلى الله عليه وسلم – في هذه المرحلة من حياته، يقول الحافظ ابن حجر: في “الفتح ” إنه حج قبل أن يهاجر مرارا، بل الذي لا ارتياب فيه أنه لم يترك الحج وهو بمكة قط. وأخرج الترمذي عن جابر أنه حج بمكة حجتين قبل الهجرة، وأخرج ابن ماجه والحاكم أنه حج قبل أن يهاجر ثلاث مرات، وهذا بعد النبوة، أما قبل النبوة فلا يعلم عدد حجه إلا الله. وكل ذلك استصحاب للأصل الذي درج عليه العرب من أيام إبراهيم عليه السلام. (فتح الباري (8/107).).
أما بعد هجرته إلى المدينة – صلى الله عليه وسلم – فإنه لم يحج سوى مرة واحدة، وهي حجته المعروفة بـ (حجة الوداع) أو (حجة البلاغ)، في السنة العاشرة للهجرة، بعد أن تم إبطال جميع الممارسات الجاهلية، وإعادة الحج إلى صورته الحنيفية، وقد استمر الحج من بعده على مدار العصور المتعاقبة إلى يومنا هذا.
الحج بعد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم:
هذا وقد حرص المسلمون على أداء ورعاية هذه الشعيرة، بعد انتقال الرسول (ص) إلى الرفيق الأعلى، وكان الخلفاء الراشدون يتولون أمر قيادة الحجّ بأنفسهم، كما حرص سائر الخلفاء والملوك والسلاطين والأمراء على أداء هذه الشعيرة بأنفسهم، بل اعتبر كثير منهم ذلك علامة على استباب أمر الحكم لمن نجح في السيطرة عليه، والتخلص من منافسيه فيه؛ نذكر هنا على سبيل المثال كيف رفض عبد الملك بن مروان أداء الحجّ أثناء سيطرة ابن الزبير على مكة، وإعلانه الخلافة لنفسه، وبعد أن تم له الاستيلاء عليها، قام بأداء هذه الشعيرة، لإثبات سيطرته على تلك البقاع المقدسة، وترسيخ حكمه فيها.
ونظرا لما تخلل عصور التاريخ الإسلامي من صراعات، كانت تصل إلى حدّ الدموية في كثير منها، فقد أثر ذلك على أداء هذه الشعيرة، بل أدى إلى تعطيلها بشكل كامل أو شبه كامل في بعض المواسم، يضاف إلى ذلك ما كانت تتعرض له الأقاليم الإسلامية، بما فيها إقليم الحجاز من أوبئة ومجاعات، وما كان يقع على ركائب الحجيج من تضييق واعتداءات، وما يتخلل طريق الحج من صعوبات ومهالك، ولكن ذلك لم يمنع هذه الرحلة من الاستمرار، وإن كان يحصل تعويق كلي أو جزئي لها في بعض المواسم.
ومن هنا ظهر الدور الحضاري الكبير للدول الإسلامية المتعاقبة، في تسهيل طريق الحج للسالكين، وتيسير الوصول إلى مكة للقاصدين، من إنشاء الطرق، وتزويدها بمصادر المياه الصالحة، ودفع عدوان المعتدين عن الحجاج، وصولا إلى التوسعات والتطويرات الضخمة، سواء في المسجد الحرام، أو المشاعر المقدسة، أو في طرق الوصول إليها، وتنظيم ذلك كله، بحيث أصبحت رحلة الحج ميسورة بشكل غير مسبوق المثال، بعد أن كانت رحلة محفوفة بالمهالك، يغلب على ظن الذاهب فيها أنه لن يعود ولن يرى أهله مجددا.
وهذا الأثر الحضاري والثقافي يحتاج إلى دراسته في مقالة مستقلة، مستقبلا إن شاء الله تعالى.