إنها ثلاثة عشر!
أيام معدودات تفصلنا عن شهر الحج العظيم، شهر ذي الحجة، الشهر الثالث من أشهر الحج، ف”الحج أشهر معلومات” (البقرة: ١٩٧) كما أخبر الله تعالى، وقد فهم ذلك صحابة رسول الله ﷺ، كما قال ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ. غير بعيد عنه قول ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كذلك: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لاَ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِلاَّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. على الرغم أن الرسول ﷺ أخبر أن “الحج عرفة” (سنن أبي داود)، أي يومه الأهم، وركنه الأعظم، لكن المعنى المستفاد من الآية الكريمة وفهم الصحابة الكرام، أن الحج يحتاج إعداداً نفسياً وروحياً وجسدياً.
من كرم الله على الحجاج أنه دعاهم لبيته، ومن كرمه على غيرهم من غير الحجاج أن عوضهم بشيء ينالون به بعض ما يناله الحجاج، ويتجلى هذا في هدايا شهر ذي الحجة المبارك، فلا بد لكل من لم يحج أن يعرف فضل أيام ذي الحجة، ولا أقول العشر، بل أقول الثلاثة عشر، وِفقاً لأحاديث الرسول ﷺ، وفي هذا بيان وتفصيل.
أما الأيام العشر الأول من ذي الحجة؛ فقد ورد فضلها في حديث ابنِ عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ الله ﷺ: “ما مِنْ أيَّامٍ العمَلُ الصَّالِحُ فيها أحبُّ إلى اللهِ مِن هذه الأيام”، يعني أيامَ العشر، قالوا: يا رسُولَ الله، ولا الجهادُ في سبيلِ الله؟ قال: “ولا الجهادُ في سبيلِ الله، إلا رجلٌ خَرَجَ بنفسِه ومالِه فلم يَرْجِعْ من ذلك بشيءٍ”، وقد خرَّج هذا الحديث جمع من أصحاب الحديث، منهم: الترمذي، أبو داوود، ابن ماجه، ابن حبان، أحمد، رضي الله عنهم أجمعين. وهذه الأيام تبدأ في الأول من ذي الحجة وتستمر إلى يوم العيد الأضحى المبارك.
لليوم التاسع من هذه العشر فضيلة خاصة؛ فهو يوم عرفة الذي يقف فيه الحجاج على صعيد عرفات الطاهر، في أهم أركان الحج، ولأننا نتحدث عن غير الحجاج، فلهم سلوى وبشرى بحديث رسول الله ﷺ: “صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ” (صحيح مسلم)، وهو أكثر يوم يعتق الله فيه عباداً من النار، وهو أفضل يوم قد يدعو فيه أحدنا ربه: “أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ” (موطأ مالك).
ولليوم العاشر شأن خاص كذلك،؛ فهو يوم النحر، الذي هو يوم العيد، وأكثر ما يتميز به هو شعيرة الأضحية، وهذا ما جعله عظيماً عند الله تعالى، حتى قال فيه النبي ﷺ في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ: “إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ”، وخرَّج هذا الحديث عدد من أصحاب الحديث، منهم: أبو داوود، ابن حبان، أحمد، رضي الله عنهم أجمعين، وأعظم ما يُتقرب فيه إلى في هذا اليوم، هو تقديم الأضاحي وإهراق الدم، كما تروي عائشة رضي الله عنها عنه ﷺ: “ما تُقُرِّبَ إلى اللهِ تَعالَى يومَ النَّحْرِ بشَيءٍ هو أحَبُّ إلى اللهِ تعالَى مِن إهراقِ الدَّمِ، وإنَّها لَتَأتي يومَ القيامةِ بقُرونِها وأشعارِها، وأظْلَافِها، وإنَّ الدَّمَ ليَقَعُ مِن اللهِ تَعالَى بمكانٍ قبْلَ أنْ يقَعَ على الأرضِ، فيَطِيبوا بها نفْسًا”، وخرّجه الحاكم والترمذي وغيرهما.
ومن الملاحظ أن رسول الله ﷺ، جمع إلى يوم النحر يوماً آخر، هو يوم القر، وهو أول أيام التشريق، وسمي كذلك لأن الحجاج يستقرون فيه بمنى، بعد وقوفهم بعرفات ومرورهم بالمزدلفة؛ بعد تعب وعناء، تقر أرواحهم، وتهدأ نفوسهم، وترتاح أجسادهم.
وفي فضل تتمة الثلاثة عشر يوماً، نجد هناك تفصيلاً لدى بعض المحدثين، على رأسهم إمامهم وشيخهم الأكبر، الإمام البخاري رحمه الله؛ ففي الحديث المروي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: “مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ؟” قَالُوا: وَلاَ الجِهَادُ؟ قَالَ: “وَلاَ الجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ” (صحيح البخاري)، نجد أن الإمام البخاري قد وضع هذا الحديث تحت باب: فضل العمل في أيام التشريق، ليشير إلى مكانتها وفضلها، على غير الفهم الذي ورد في الأحاديث التي ذكرت العشر الأول من ذي الحجة فقط، دون الإشارة إلى فهم آخر محتمل أيضاً، وفي كل خير إن شاء الله، أضف إلى هذا الحديث حديث فضل أيام منى، الذي قال فيه النبي ﷺ: “إِنَّمَا هِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ، وَشُرْبٍ، وَذِكْرٍ للهِ” (موطأ مالك).
ما نخلص إليه أنها ثلاثة عشر يوماً، وليست عشراً فقط، ومما يؤكد هذا المعنى تفسير سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما، حين قال عن آية سورة الحج: “ويذكروا اسم الله في أيام معلومات” (الحج: ٢٨)، قال الأيام المعلومات هي العشر من ذي الحجة، وفي آية سورة البقرة: “واذكروا الله في أيام معدودات” (البقرة: ٢٠٣)، قال الأيام المعدودات هي أيام التشريق؛ ففي القرآن الكريم مستند في فضل هذه الثلاثة عشر، فلنتنبه، ولا نضيع فضائل هذه الأيام المباركات.
ولعلي أنوه أخيراً، أن العمل الصالح في هذه الأيام مشروع بأوسع أبوابه، ليس الصيام فحسب، بل كل عمل خير مهما صغر، فهو معدود مأجور، فلا نضيق واسعاً، ولا نلزم أنفسنا فيما ليس فيه إلزام، والله نسأل أن يتقبل منا أجمعين، وأن يبارك لنا في أعمالنا وأعمارنا، والحمد لله رب العالمين.
وكتبه الشيخ جعفر حوى