Orland Park Prayer Center

The Prayer Center of Orland Park

كيف نتعامل مع الإبتلاء؟

سهرت أعينٌ ونامت عيـون    …

         في شؤون تكون أو لا تكونُ

فاطرح الهَـَّم مـا استطعت  …

          فحمـلانك الهمـوم جنـونُ

إن رباً كفاك ما كان بالأمس  …

           سيكفيـك فـي غدٍ ما يكونُ.

    لقد جُبلت الدنيا على كَدَرٍ فكم من مصائبَ وكوارثَ وأزماتٍ يتعرض لها الإنسان في حياته، سواء كان ذلك في نفسه أو في أهله وماله وأولاده، أو في جسده أو في دينه ومجتمعه وأمته، وقد يُبتلى المرء في طعامه وشرابه وحريته، وهذا الإبتلاء جعله الله سنةً في خلقه لم يستثنِ منه أحد حتى أنبيائه ورسله وهم أقرب الخلق وأحبهم إليه.

     روى الإمام أحمد في مسنده وابن حبانَ في صحيحه  عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنّه قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الناسِ أشدّ بلاء؟ فقال ﷺ: ((أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثلُ فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسَب دينه، فإن كان في دينِه صلبًا اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقَّة ابتُلِي على قدرِ دينِه، فما يبرَح البلاءُ بالعبدِ حتّى يتركَه يمشِي على الأرض وما عليه خَطيئة)).  وقال تعالى: ﴿ الٓمٓ* أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوٓا۟ أَن يَقُولُوٓا۟ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُوا۟ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَـٰذِبِينَ*﴾ [العنكبوت:1-3]  …

     وذكر سبحانه وتعالى الإبتلاء وقَرَنَه بخلق الإنسان وما زال نطفة ليُدرك حقيقة الإبتلاء وكيف يتعامل معه ويستفيد منه، وكيف يستثمره ليواصل مسيرة الحياة،
قال تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ ]الإنسان:2-3[

     وجعل سبحانه وتعالى الإبتلاء في الدنيا بما فيها، سُنةً ماضيةً في الأمم والأفراد والشعوب وجعل الآخرة للجزاء قال تعالى: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾]الكهف:7[

     هذا الإبتلاء وهذا الإمتحان عاشه سيدنا محمد ﷺ وهو سيد ولد آدم  وأحب خلق الله إليه، صابراً ومحتسباً واثقاً من ربّه أنه لن يضيعه ولن يتركه فكان له النصر والتمكين والرفعة في الدنيا والآخرة.

     وابتلي موسى عليه السلام وهو الذي قال الله فيه: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾ ]طـه:13[، وقال تعالى: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾]طـه: 39[.

     وعندما وقف موسى عليه السلام أمام فرعون يدعوه إلى هدى الله بعد أن مارس الفساد والظلم والإضطهاد على قومه فذبح أبنائهم واستحيا نسائهم، قال له فرعون وما ربّ العالمين الذي تدعو إليه ﴿ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾  ]الشعراء:24  [

     وعندما جاء موسى عليه السلام بالبيِّنات على صدقه،  قال فرعون لمن حوله ﴿إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ ]الشعراء:34  [

     ولأن فرعون رجل ديمقراطي أراد أن ينتصر على موسى أمام الجماهير وجمع السحرة والناس في يوم مهيب،﴿قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً﴾ ]طـه:59[.
وعندما وجد السحرة أن ما جاء به موسى ليس بسحر بل هي معجزة عظيمة آمنوا واتبعوا موسى عليه السلام فبدأ التهديد والإرهاب والحصار والتقطيع لعلهم أن يعودوا كما كانوا فقالوا لفرعون بلسان الواثق بربه ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ ]طـه:72[، وانتصر موسى عليه السلام وقومه واغرق الله فرعون وجنده.

     وابتُلي نبي الله يوسف عليه السلام بالطعن في أمانته حينما قال إخوته: ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ [ يوسف:77]، وأُلقِيَ في غيابة الجبّ كما تُلقى الأحجار، وبِيع في سوق النخاسة كما يُباع العبيد، وشُري بثمن بخس دراهم معدودة، وكان من اشتراه فيه من الزاهدين، وخدم في البيوت كما يخدم العبيد، واتُّهِم في عرضه تهمة يتنزه عنها العقلاء فكيف بالأنبياء؟ وأُلقي بسببها في السجن كما يُلقى المجرمون، فلبث فيه بضع سنين.

     وقد يُبتلى العَالِم في علمه، والتاجر في تجارته، وأصحابُ الولَايَاتِ في ابْتلاءٍ عظيمٍ بإِقامةِ شرع الله تعالى في وِلَايَاتِهِم، والحُكْمِ بالعدلِ في رَعَايَاهُم، كما أنَّ رعاياهم مُبتلون بالسَّمع والطَّاعةِ لمن أقامَ حُكم الشَّريعةِ فيهم، وبرهانُ ذلكَ أنَّ داودَ -عليه السَّلام- لمَّا حكم بين الخصمين علم أنَّه قد ابتليَ بذلك؛ ﴿وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ﴾{ص:24-25}.

     وقد يُبتلى الناس ببعضهم البعض، في تفاوتِ أرزاقهِم، ورفعةِ درجاتهم، فمنهم من يرضى ويقنَعُ، ومنهم من يسخطُ ويطمعُ؛ ومنهم من يشكرُ النّعمةَ، ومنهم من يجحدُ ويتكبرُ ويتنكرُ لها وينسى أن المُنعم هو الله، حتى ظهرت الخصوماتُ بين النّاس وسُفكت لأجل ذلك الدماء، وحلَّ التقاطع والهجران، قال تعالى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ﴾ ]الأنعام:165[

     إنّ هذا الإبتلاء الذي يتعرض له المسلم في حياته بما فيه من مشقةٍ وشدةٍ وعُسر ومعاناة ..!! إلا أن هناك مِنَحٌ إلهية وجوائزُ ربّانية جعلها الله لعباده المؤمنين وللمجتمع والأمة المسلمة، فمن ذلك تكفيرُ الذنوب والخطايا، ورفعُ الدرجات وتطهيرُ النّفوس وتزكيتُها وربطُها بخالقها،  والتمكينُ والنَّصر والتمييزُ والتمحيص بين العباد، ومعرفةُ أهل الصدق والصبر والإيمان، وكشف وفضح أهل الخيانة والكذب والنفاق. قال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَـٰرَكُمْ﴾ [محمد:31]، وقال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ ]البقرة:155[

     والمسلم يحتاج إلى أن يُحسن التعامل مع الإبتلاء وكيف يستثمره ويستفيد منه .. فيقوي إيمانه باللَّه عندما يدرك أن قدر الله لا مناص منه،  فيربي نفسه على التسليم والرضا بما قدر الله، قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد: 22] ، فلا يَكملُ إيمان عبدٍ ولا يستقيم حتى يُؤمن بالقدر خيره وشرّه، ويعرف أن من صفته تعالى أن يُقَّدر ويلطف، ويبتلي ويخفف، ومن ظن انفكاك لطفه عن قدره فذلك لقصور نظره ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ﴾[يوسف: 100]، وعن الوليد بن عبادة قال: ((دخلت على أبي وهو مريضٌ أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي، فقال: أجلسوني؛ فلمّا أجلسوه، قال: يا بنيّ إنك لن تجد طعم الإيمان ولن تبلغ حقيقةَ العلم باللَّه تبارك وتعالى حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، قلت: يا أبتاه وكيف لي أن أعلم ما خيرُ القَدَر وشرّه؟ قال: تعلم أنّ ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليُخطئك، يا بني إني سمعت رسول اللَّه ﷺ يقول: ” أوّل ما خلق اللَّه القلم، قال: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة . . . “، يا بني إن مِتّ ولست على ذلك دخلت النّار.)) رواه أحمد في المسند.

     ومن المنح الإلهية أن ينظر المسلم إلى الجزاء والثواب والأجر الذي يناله من هذا الإبتلاء جرّاء صبره وثقته بما عند الله، قال النبي ﷺ: ” مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مِنْ مَرَضٍ فَمَا سِوَاهُ إِلَّا حَطَّ اللَّهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا ” رواه مسلم.

    وعنه ﷺ قال: ” إِنَّ اللَّهَ تعالى قال: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ (عينيه) فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ “. رواه البخاري

وعن أبي موسى رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: ” إذا ماتَ وَلَدُ العبدِ قال الله تعالى لملائكتِهِ: قَبَضْتُّم وَلَدَ عَبْدِي؟ فيقولون: نَعَم، فيقولُ: قَبَضْتُّم ثَمَرَةَ فُؤادِه؟ فيقولون: نَعَم، فيقول: فَمَاذَا قالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُون: حَمِدَكَ واسْتَرْجَعَ، فيقولُ اللهُ تعالى: ابنُوا لِعَبْدِي بَيْتاً في الجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الحَمْدِ “. صحيح الجامع

يا له من أجرٍ عظيمٍ وثوابٍ جزيل لا يناله إلا الصابرون…

     إنَّ مما يخفى على كثير من الناس أن النِّعم ابتلاء، فيظنونها تكريماً من الله لهم لا اختباراً لشكرهم، فيسيئون استخدامها ويغترون بها، ولا يبالون إن كان ذلك يُسخِط الربَّ أم لا، فيُفسدون ولا يُصلحون وعلى الله يستعلون، وباللَّه ونِعَمِه يَجحدُون وبآلائه يُكذبون؛ هذا قارون: ﴿ … إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ* قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ [القصص 76-78]…

     والله عز وجل ذكر لنا أنه يبتلي عبادَه بالخير كما يبتليهم بالشر، فيقول سبحانه وتعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء 35]، ومن هنا يستثمر العبد هذا الإبتلاء بالتوبة والرجوع إلى الله وترك الذنوب والمعاصي والإقبال على الطاعات والعبادات قال تعالى: ﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة:153]..

     وعلى المسلم كذلك أن يبذل الأسباب الشرعية والمادية ليدفع عنه البلاء،
فإذا ابتُلي في جسده بحث عن العلاج، وإذا ابتُلي في رزقه مشى في مناكب الأرض يبحث عن العمل، وإذا ابتُلي بتسلط ظالم دفعه بكل الوسائل الممكنة ولا يستسلم لذلك بحجة أنه إبتلاء، قال تعالى: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ﴾ ]الشورى:41[، وإذا كان الإبتلاء للمجتمع والأمة بشكل عام سواء كان بالاختلاف والتفرق، أو الأزمات الإقتصادية أو بتسلّط العدو، أو بالأمراض والأوبئة، أو بالكوارث وغيرها، سارع الجميع إلى التعاون والتراحم والتآلف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقديمِ النّفع، وسعى الجميع إلى رأب الصدع وإصلاح الوضع وقول كلمة الحق، والتضرع إلى الله والدعاء بأن يرفع البلاء ويلطف فيه ويكتب الأجر والثواب قال تعالى: ﴿ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ]الأنعام/43[

اللهم إنا نسألك الصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء …

وكتبه الشيخ مروان عبد الرحمن كصك

.

Sign up for our email list!

Sign up to get the monthly Insight E-News, Programs & Events Announcements, as well as Ramadan and Eid information delivered to your inbox.

Accessibility Toolbar