Orland Park Prayer Center

The Prayer Center of Orland Park

رأس السنة الميلادية

مع كل عام هجري جديد تجد العديد من المسلمين يحتفلون بذكرى هجرة الرسول ﷺ من مكة إلى المدينة، إحياء لهذه المناسبة التي عمَّ خيرها كل الأمة، ولا حرج في هذا إذا ما روعيت الضوابط الشرعية من غير إفراط ولا تفريط. في حين يرفض البعض الاحتفال بالعام الهجري جملة وتفصيلاً. أما عن السنة الميلادية، فالأمر مختلف تماماً؛ إذ الاختلاف قائم في يوم ميلاد المسيح عليه السلام من الأساس، ولا تخفى المفاسد التي تخالط احتفالات رأس السنة الميلادية عادة، لذلك تجد المسلمين في عمومهم يرفضونها ويتطلعون لها بعين الشبهة… لكن لا يخلو الأمر من فائدة، والحكمة ضالة المؤمن، أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها، وما مقالي هذا إلا للفت الانتباه لهذه الفائدة.

مع كل يوم جديد بداية جديدة في علاقتنا مع الله، وهذا حال المؤمن؛ إذ ينظر إلى كل يوم أنه فرصة للتوبة وتصويب ما فاته في يومه السابق، ويؤثر عن الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: “من طلب الدنيا، قعدت به، ومن زهد فيها، لم يبالِ مَن أكلها، الراغب فيها عبد لمن يملكها، أدنى ما فيها يكفي، وكلها لا تُغني، من اعتدل يومه فيها، فهو مغرور، ومن كان يومه خيراً من غده فهو مغبون، ومَن لم يتفقَّد النقصان عن نفسه، فإنه في نقصان، ومن كان في نقصان فالموت خير له”. فالواجب على كل مسلم أن يكون يومه خيراً من أمسه، وغده خيراً من يومه، وإلا كان في خسران.

إذا كان هذا حال المسلم في يومه، فحاله في سنته ينبغي ألا يقل عن هذا، بل أن يكون كالتاجر الماهر، مع نهاية كل عام يحاسب نفسه، ويراقب نتاج استثماره، ويعدل المسيرة مع الدورة المالية الجديدة مع بداية العام، حتى يبقى في نجاح، ويسلم من الخسارة. ولعمري إن الذي يُتاجر مع الله أولى أن يكون هذا حاله؛ فالرابح الأكيد من ربح الآخرة، والخاسر من خسرها ولو نال الدنيا من أوسعها.

لذلك مع بداية كل سنة هجرية كانت أو ميلادية، ينبغي علينا استثمار الفرصة، وتجديد النية مع الله، في مراجعة أنفسنا، وإصلاح ما أفسدته الأيام، والإقبال بنفس جديد، وعزم حديد على إقامة الدين والدنيا، وفق منهج الله ومنهج رسول الله ‎ﷺ. ولعل هذا المقال يسلط الضوء على حديث من أحاديثه ﷺ، يدفعنا إلى الإمام، ويشعل فينا جذوة الحماس للعمل.

جاء في الحديث الصحيح الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال: ” بادِرُوا بالأعْمالِ سِتًّا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِن مَغْرِبِها، أوِ الدُّخانَ، أوِ الدَّجَّالَ، أوِ الدَّابَّةَ، أوْ خاصَّةَ أحَدِكُمْ، أوْ أمْرَ العامَّةِ ” (صحيح مسلم). ولهذا الحديث فوائد جليلة، أهمها أنه ﷺ يحثنا على العمل قبل فوات الأوان، وفوات الأوان يتعلق بعلامات الساعة، أو موت الواحد، أو القيامة، وما دورة الزمان إلا اقتراب إلى كل هذا، وقد قال الله تعالى صراحة في قرآنه الكريم: ” اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ” (الأنبياء: ١)، فمهما طال الزمان فإن الحساب قريب، ولكن قلَّما يتفكر الإنسان ويعتبر.

أما تفسير هذه العلامات، وما يؤيدها في كتاب الله، فأقتبس ما يقوله أهل الحديث في شروحهم:

“العلامةُ الأُولى: “طُلوعَ الشَّمسِ مِن مَغربِها” على خِلافِ العادةِ؛ فالشَّمسُ تَطلُعُ مِنَ المشرقِ، فإنَّها إذا طَلعَت مِنَ المَغربِ لا يُقْبَلُ إيمانُ كافِرٍ، ولا تَوبةُ عاصٍ، ولا عمَلٌ صالحٌ، كما قال تعالَى: “هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ” (الأنعام: 158). وهذه الآيةُ الكريمةُ تدُلُّ على أنَّ الإيمانَ يَنْفَعُ إذا كان إيمانًا بالغَيْبِ، وكان اختيارًا مِنَ العبدِ، فأمَّا إذا وُجِدَتِ الآياتُ فيَصيرُ الأمْرُ شَهادةً، ولم يَبْقَ للإيمانِ فائدةٌ؛ لأنَّه يُشْبِهُ الإيمانَ الضَّروريَّ، كإيمانِ الغَريقِ والحَريقِ ونَحْوِهما مِمَّن إذا رَأى الموتَ تابَ عمَّا وقَعَ فيه مِن السَّيِّئاتِ.

والعلامةُ الثَّانيةُ: “ظُهورَ الدُّخَانِ” وهو دُخَانٌ يَأخُذُ بأَنْفاسِ الكفَّارِ، ويَأخُذُ المؤمنينَ منه كهَيئةِ الزُّكامِ، وهو مِنَ الآياتِ المُنتظَرةِ الَّتي لم تَأتِ بعدُ، وسيَقَعُ قُربَ يَومِ القِيامةِ، كما قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: “فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ” (الدخان: 10-11)، حيث تَأْتي السَّماءُ بدُخَانٍ ظاهِرٍ يُغَطِّي النَّاسَ ويَعُمُّهم قبْلَ مَجيءِ الساعةِ ووُقوعِ القيامةِ.

والعلامةُ الثَّالثةُ: “خُروجَ الدَّجَّالِ” مَأخوذٌ مِن الدَّجلِ، وهو التَّغطيةُ، سُمِّي به؛ لأنَّه يُغطِّي الحَقَّ بباطِلِه، وهو شَخصٌ مِن بَني آدَمَ، يَدَّعي الأُلوهيَّةَ، أَقْدَرَه اللهُ على أشياءَ مِن خَوارِقِ العاداتِ؛ مِن إحياءِ المَيِّتِ الَّذي يَقتُلُه، وظُهورِ زهرةِ الدُّنيا والخِصْبِ معه، وجَنَّتِه ونارِه، ونَهْرَيْه اللَّذينِ معه، واتِّباعِ كُنُوزِ الأرضِ له، وأَمْرِه السَّماءَ أن تُمْطِرَ فتُمْطِرَ، والأرضَ أنْ تُنبِتَ فتُنبِتَ، فيَقَعُ كلُّ ذلك بقُدْرَةِ اللهِ تَعالى ومَشيئتِه؛ حِكمةً وابتلاءً منه سُبحانَه للصَّادِقينَ في إيمانِهم والكاذِبينَ، ثُمَّ يُعجِزُه اللهُ تعالَى بعدَ ذلك، ويُبطِلُ أمْرَه، ويَقتُلُه عِيسى عليه السلام، ويُثبِّتُ اللهُ الَّذين آمَنُوا.

والعلامةُ الرَّابعةُ: “ظُهورَ الدَّابَّةِ” أي: خُروجُها، كما قال اللهُ سُبحانَه: “وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ” (النمل: 82)، فإنَّه إذا حلَّ الوَعدُ بعَذابِ الكافِرينَ واقتَرَبَت الساعةُ، أخرَجَ اللهُ تعالَى لهُم دابَّةً مِن الأرضِ تُخاطِبُ أولئك الكافِرينَ وتُحدِّثُهم بأنَّ النَّاسَ لا يُؤمِنونَ بآياتِ اللهِ تَعالى إيمانًا تامًّا لا شكٌّ فيه ولا شُبهةٌ. وفي هذا بَيانُ قُدرةِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ حيثُ أنطَقَ هذه الدَّابَّةَ لتُكَلِّمَ النَّاسَ بكَلامٍ يَفهَمونَه.

والعلامةُ الخامسةُ: “خاصَّةَ أَحدِكم”، أي: مَجيءُ ما يَخُصُّ كلَّ إنسانٍ مِنَ المَوتِ الَّذي يَمنَعُه منَ العَملِ، أو هيَ ما يَختصُّ به الإنسانُ مِن الشَّواغلِ المُتعلِّقَةِ في نَفسِه ومالِه، وما يهتَمُّ به.

والعلامةُ السَّادسةُ: “أمرَ العامَّةِ”، يَعني: قبْلَ أنْ يَتوجَّهَ إليكم أمرُ العامةِ والرِّياسةِ، فيَشغَلَكم عن صالحِ الأعمالِ، وقيل: هي القِيامةُ؛ لأنَّها تَعُمُّ النَّاسَ جميعًا بالموتِ، يَقولُ: فبادِروا الموتَ والقِيامَةَ بالأَعمالِ الصَّالحةِ.” انتهى.

من هذا الحديث الشريف، تتأكد مهمتنا في العمل، وتجديد النية، وإصلاح الخلل فيما مر من الأيام والأعوام، عسى الله أن يختم لنا بخاتمة الخير، وأن يجعل مقامنا في الفردوس الأعلى، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقاً. عام جديد نسأل الله فيه خيره، وفتحه، ونصره، وبركته، وهداه.

 

وكتبه الشيخ جعفر حوى

.

Sign up for our email list!

Sign up to get the monthly Insight E-News, Programs & Events Announcements, as well as Ramadan and Eid information delivered to your inbox.

Accessibility Toolbar