بسم الله الرحمن الرحيم
موت الفجأة … كيف نستعد للقاء الله عزوجل (٢)[1]
هل موت الفجأة من علامات الساعة؟
تطرقت في مقالة سابقة إلى مقدمة حول موضوع (موت الفجأة)، والتعريف بحقيقته، وفي هذه المقالة سأتطرق إلى سؤال كثيرا ما يطرحه البعض، ألا وهو: هل يعتبر موت الفجأة من علامات الساعة وأشراطها المؤذنة بنهاية هذا العالم؟ ولماذا؟
بداية: ورد في بعض الآثار والأحاديث الإخبار بأن انتشار موت الفجأة يعتبر من علامات الساعة، كما في حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إن من أمارات الساعة أن يظهر موت الفجأة”[2]. والعلماء يعدّونه من الأمارات الصغرى للساعة، والتي أثبت الواقع تحققها في وقتنا الحاضر.
والذي يتأمل في نصّ الحديث السابق، يلاحظ أن التعبير النبوي بـ “ظهور موت الفجأة” يشير إلى تحول هذه الحالة من حالات نادرة محدودة، موجودة لكنها غير ظاهرة بشكل واضح، إلى ظاهرة عامة بارزة للعيان، تتزايد حالاتها وتنتشر بحيث يلحظها الجميع، ولا شكّ أن هذا الأمر قد أصبح في زماننا هذا واقعا حقيقيا لا سبيل لإنكاره، فإن الواقع يشهد بارتفاع معدّل الوفيات عالميّاً بسبب الجلطات الدماغية، والسكتات القلبية، والرجفان البطيني، وهبوط الدورة الدموية، ونحوها من الأمراض الباطنية التي يسبب الموت السريع لأصحابها، وكذلك الأوبئة المعدية، التي تنتشر في أرجاء الأرض، فتتخطف أرواح الآلاف، في وقت قصير، وارتفاع معدلات الوفيات، بالحوادث المتنوعة، كحوادث السيارات والطائرات والقطارات والسفن، وحوادث العمل المختلفة، إضافة إلى تسببه الحروب والصراعات، التي تستخدم فيها الأسلحة الفتاكة، وأدوات الدمار الشامل، التي تودي بأرواح الملايين في لحظات، ومثل ذلك ما تخلفه الكوارث الطبيعية، من زلازل وبراكين، وحرائق وفيضانات، من موت ودمار هائلين، في ثوان معدودة[3].
ولعل السبب في كثرة ما تخلفه هذه الأسباب من وفيات يرجع إلى أمور:
أولها: كثرة أعداد الناس، وتزايد تعداد سكان الأرض بشكل مهول، بحيث يتسبب وقوع الأوبئة والكوارث ضمن تجمعاتهم الضخمة، إلى أعداد ضخمة من الوفيات، وإلا فكثير من هذه الكوارث والأوبئة، لا يعدّ أمرا جديدا على البشرية، لكن أعداد البشر، وتجمعاتهم، لم تكن على ما هي عليه اليوم، حتى يقع فيهم من الخسائر مثل ما يقع في عالمنا اليوم.
يضاف إلى ذلك أن توفر السجلات الحديثة، قد ساهم في رصد أعداد الضحايا، وهو أمر لم يكن متوفرا إلى عهد قريب.
وثانيها: تغير طبيعة حياة الناس، وأسلوب معيشتهم: سواء من حيث نوعية الطعام، وخاصة وجبات الطعام السريع، وما تتعرض له كثير من الأطعمة والثمار واللحوم من المعالجات الكيميائية والهرمونية، وكذلك انتشار العادات غير الصحية، كالتدخين وتعاطي المخدرات، وقلّة حركة الناس ونشاطهم، نتيجة لاعتماهم على الآلات ووسائل الرفاهية الحديثة، إضافة إلى كثرة الضغوط الحياتية والاجتماعية والاقتصادية، التي قد تؤدي إلى وفاة الإنسان على حين غفلة، إما بتعرضه للسكتات القلبية والجلطات الدماغية، ونحوها، أو من خلال إقدامه على قتل نفسه انتحارا، أو نتيجة تعاطي المخدرات التي يحاول الهروب من خلالها من الواقع الذي لم يعد يطيقه.
وأما ثالث هذه الأسباب: فما وصل إليه التطور البشري، وما ابتدعه العقل الإنساني، من صنوف الأسلحة الفتاكة، سواء التقليدية أو غير التقليدية، من نووية، وهيدروجينية، وكيميائية، وبيولوجية، وسبرانية، مما يحصد أرواح الملايين في لمحة عين، الأمر الذي لا مجال للمقارنة بينه وبين ما كان يمتلكه الإنسان من أسلحة بسيطة، منذ قرون قليلة.
إضافة إلى كثرة النزاعات والفتن والصراعات، وتزايد مسبباتها، من دينية ومذهبية، وعرقية وطائفية، إلى سياسية واقتصادية، وعسكرية واستراتيجية، والتي تؤجج نار الحرب بين الدول والحكومات، فتحترق بنارها الشعوب، وتصطلي بلظاها الأمم، دون أن يكون لهم فيها يد، ولكنها لا تستوفي الثمن إلا من أرواحهم ودمائهم وأبنائهم، وأموالهم وممتلكاتهم ومقدراتهم، فلا تخبوا إلا وقد أهلكت العباد، ودمرت البلاد.
ولعل في هذا مصداق لما ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أن الساعة لا تقوم حتى تظهر الفتن، ويكثر القتل، حتى يصل الأمر بالناس أن قتل الواحد منهم أخاه وقريبه وجاره، دون أن يعلم القاتل فيم قتل، ولا المقتول فيم قتل[4].
أخيرا، فإن انتشار ظاهرة (موت الفجأة) أمر مناسب ليكون من علامات اقتراب الساعة؛ وذلك أن الساعة لا تأتي إلا بغتة، كما ذكر القرآن الكريم[5]، فيكون في كثرة موت الفجأة إيذان بقرب وقوعها المفاجئ من ناحية، وتذكير – لكل إنسان – بضرورة الاستعداد لها، من ناحية أخرى؛ فإن قيام القيامة الكبرى لا يختلف – في حق الإنسان – عن موته، الذي هو القيامة الصغرى بالنسبة له، كما رُوي: “من مات فقد قامت قيامته”[6].
وعلى كلٍّ، فإن المنبغي للإنسان أن يتعظ بما يراه حوله من تخطف الموت للناس، أفرادا وجماعات، على حين غفلة منهم، دون تمييز بين صغير وكبير، أو صحيح وعليل، أو قوي وضعيف، فيكون له في ذلك عبرة، تساعده على الاستعداد للقاء المولى عزوجل، سواء طالت به الحياة أم قصرت، جاءه الموت بغتة، أم جاءته أشراط قيامته تنذره بقرب الرحيل.
في المقالة القادمة، سأتطرق إلى سؤال آخر: وهو هل يعتبر موت الفجأة علامة على حسن الخاتمة، أو نذير شؤم وعلامة على سوء الختام، والعياذ بالله.
نسأل الله أن يختم بالصالحات أعمالنا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
الشيخ الدكتور هيثم زماعرة
[1] هذه المقالة مهداة إلى روح كل من: مجاهد رزق الحلايقة (ابن عديلي الأستاذ رزق الحلايقة، والذي توفي فتى يافعا بحادث سيارة مؤلم)، منتصر البدارين (صديق وزميل الدراسة بالجامعة الإسلامية، الذي توفي غرقا في جدة – السعودية)، ضياء هاشم دحابرة (ابن الصديق والأخ الكريم هاشم دحابرة – أبو فارع، والذي توفي غرقا في نهر الديلاوير – فيلادلفيا)، علياء سمير الموسى (ابنة الصديق والأخ الكريم سمير الموسى، والتي توفيت قبل بضعة أيام، على إثر فقدها لجنينها)، ولجميع أحبابنا الذين فارقونا إلى جوار الله تعالى، أسأل الله أن يكتبهم من أهل جنته، وأن يجمعنا بهم في مستقر رحمته.
[2] نصّ حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من اقتراب الساعة أن يرى الهلال قبلا، فيقال لليلتين، وأن تتخذ المساجد طرقا، وأن يظهر موت الفجأة“. أخرجه الطبراني في “المعجم الصغير” (1132) و”المعجم الأوسط” (9 / 147، كما روي نحوه عن الشعبي مرسلا، وقد حسَّن هذه الآثار الحافظ السخاوي في “المقاصد الحسنة” (ص 506) وقال: له طرق يقوي بعضها بعضا، كما حسنها الشيخ الألباني في “السلسلة الصحيحة” (5 / 370)، ويمكن الاطلاع على هذه الآثار في كتاب “إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة ” للشيخ حمود التويجري (2/236).
[3] راجع: مقالة بعنوان: (من أشراط الساعة … كثرة موت الفجأة)، على موقع (إسلام ويب).
الرابط: https://www.islamweb.net/ar/article/182357/
[4] عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ، وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ، فَقِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: الْهَرْجُ، الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ”. رواه مسلم (2908)
وعنه رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ، وَهُوَ الْقَتْلُ، حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ فَيَفِيضَ”. رواه البخاري (1036) ومسلم (157).
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:”كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُنَا أَنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ الْهَرْجَ. قِيلَ: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَال: الْكَذِبُ وَالْقَتْلُ. قَالُوا: أَكْثَرَ مِمَّا نَقْتُلُ الْآنَ؟ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمْ الْكُفَّارَ، وَلَكِنَّهُ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ، وَيَقْتُلَ أَخَاهُ، وَيَقْتُلَ عَمَّهُ، وَيَقْتُلَ ابْنَ عَمِّهِ. قَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ! وَمَعَنَا عُقُولُنَا؟ قالَ: لَا. إِلَّا أَنَّهُ يَنْزِعُ عُقُولَ أَهْلِ ذَاكَ الزَّمَانِ، حَتَّى يَحْسَبَ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ”. رواه أحمد في “المسند” (32/409) وصححه المحققون في طبعة مؤسسة الرسالة، وصححه الشيخ الألباني في “السلسلة الصحيحة” (1682)
[5] في سورة الأعراف، الآية ١٨٧: “يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي ۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ۚ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ۗ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ”.
وكذلك في سورة محمد، الآية ١٨: “فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً ۖ فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ۚ فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ”.
[6] أخرجه أبو نعيم في “الحلية” (6/267-268)، وابن عساكر في تاريخه (37/214)، وأورده الديلمي في “مسند الفردوس” (1/285/1117)، وذكر العجلوني في “كشف الخفاء” (1/151 ط- دار الكتب العلمية) أن العسكري أخرجه عن أنسٍ بلفظ: … الموت القيامة إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته يرى ما له من خيرٍ وشرٍ …”، والحديث إسناده ضعيف، فإن فيه داود بن المحبر، وقد كذبه الإمام أحمد، وقال فيه الذهبي: تالف. بل حكم الشيخ الألباني عليه بالوضع في “السلسلة الضعيفة” (5462).
وقد ورد معنى هذا عن جماعة من السلف، كما نقل ذلك الطبري في تفسيره (29/174).