Orland Park Prayer Center

The Prayer Center of Orland Park

وعد الله غالب

لمَّا خلق الله الدنيا، خلقها لغاية، وأوضح تلك الغاية صراحة في القرآن الكريم مراراً وتكراراً؛ حتى لا يغتر المرء بما يلقاه من خيرها، ولا ييأس لما يلقاه من شرها، بل يسلم الأمر لله في كل حال، يقظاً متنبهاً إلى أنها دار ابتلاء، لا دار استواء، دار بلاء، لا دار جزاء. وبيان هذا في القرآن الكريم ينبغي أن يكون بمثابة قوانين ومبادئ يدركها كل مسلم، ويؤمن بها حق الإيمان، وإلا تزعزع مع كل امتحان، وانقلب على عقبيه مهموماً خسران، ولعلي في مقالتي هذه ألفت العناية إلى بعض هذه القوانين.

في سورة غافر، سورة المؤمن، تقرأ مثلاً:إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ” (غافر: ٣٩)، في هذا القانون بيان أن الاستقرار الحق لا يكون في هذا الدنيا، إنما هذه الدنيا محطة تتزود فيها لرحلتك، وتتزود فيها قدر طاقتك، لما ستحتاجه في رحلتك للآخرة. وفي هذا القانون بيان أن الدينا قصيرة؛ إذ أن الإنسان في محطة التزود لا يقضي عمره كله، إنما هي لحظات يستجمع فيها ما يريد، ويتهيأ لبقية الطريق.

وفي سورة الملك التي تشفع لصاحبها حتى يُغفر له، تقرأ قول الله:خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا” (الملك: ٢)، في هذا القانون بيان أن هذا الدنيا اختبار، وابتلاء، “ليميز الله الخبيث من الطيب” (الأنفال: ٣٧)، وفيها تحذير وتوعية، ليتخذ كل واحد منا مساره ومكانه، بل فيها أيضاً تنبيه أنها ستضج بالشر والبلايا، والظلم والرزايا، كيف لا؟ والله يخبرنا أن هذه الدنيا هي المحل الذي يتضح به من هو صاحب العمل الحسن، ومن هو صاحب العمل السوء، ولا يستقيم حال الدنيا إلا بذلك. وإلا لو كانت الدنيا كلها أصحاب عمل حسن، لماذا نحتاج الحساب؟ أو حتى الجنة لاحقاً؟ لتكن الجنة منذ البداية إذن… لكن لله مراد أن يختبر الخلق في الدنيا حتى يصلوا إلى مستقرهم في الآخرة.

لما تقرأ القانون السابق، يسهل عليك فهم القانون اللاحق؛ في سورة الفرقان أخبر الله تعالى عن حقيقة محسوسة: “وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ” (الفرقان: ٢٠)، فمن أشكال البلاء أن يختبر الله الناس بعضهم ببعض؛ فالغني فتنة للفقير، والفقير فتنة للغني، والقوي فتنة للضعيف، والضعيف فتنة للقوي، والظالم فتنة للمظلوم، والمظلوم فتنة للظالم… وهكذا دواليك. والغاية: أتصبرون؟ هل سيكون هذا البلاء دافعاً لكم للتحقق في مقام الصبر، أم تنقلبون على أعقابكم تسخطون عن الله في مراده وأحكامه، والعياذ بالله؟

ولما كانت الدنيا دار بلاء، فإنها ملأى بشتى أنواع البلاء التي ذكر الله بعضها في القرآن الكريم: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ” (البقرة: ١٥٥)، وهذا والله وصف دقيق لهذه الدنيا حقيق بالفهم، حتى لا نغتر بهذه الدنيا ونظن أن تستقيم لنا كما نحب، لأن هذا غير كائن حتماً، ولو استقامت الدنيا لأحد لاستقامت لرسول الله ﷺ، نسعى جهدنا لتحقيق السعادة في هذه الدنيا، ولا ضرر في ذلك إذا ما التزمنا أمر الله ودرب رسول الله ﷺ، لكن هذا يأتي بثمنه، ومن نال السعادة في الدنيا على هذا الطريق، فهذا والله عاجل بشرى المؤمن أن يكون من أهل السعادة في الدار الباقية كذلك، وخلاف ذلك، يأتي القانون الرباني الأمثل كالشمس في وضح النهار: لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ” (الحديد: ٢٣)، نداء يوقظ كل غافل، ويرشد نحو الرضى كل عامل؛ فلا الفوت يقتضي الخسارة، ولا الربح يقتضي البشارة، والبلاء جلي في كليهما: “وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ” (الأنبياء: ٣٥).

لعلي إلى جنب ما ذكرنا من قوانين ربانية تعيننا في فهم هذه الدنيا، وإنزال البلايا التي تمسنا فيها وتمس أمتنا جمعاء منزلها الحق، دونما مجاوزة في حق الله سبحانه، وسوء أدب معه، وكذلك رحمة بأنفسنا حتى لا نهلكها في مشاعر الجزع والقنوط واليأس. لعلي أذكر مثالاً لرسول الله ﷺ القدوة، وصحابته الكرام، وقد تعرضوا للكثير الكثير من المصاعب والمصائب، وما فتَّ ذلك من عضدهم، وما ضعفوا وما استكانوا، بل كان إيمانهم سيد الموقف، وقائدهم إلى مزيد من الرقي في جنب الله سبحانه؛ ففي غزوة الأحزاب مثلاً، لما تجمع المشركون أحلافاً، ولما يكونوا كذلك إلا في محاربة الرسول ﷺ، وما أشبه اليوم بالبارحة! يتجمع أعداء الدين والإنسانية لمحاربة الحق وأهل الحق، في تزيف جلي للتاريخ والجغرافيا… لكن أنّى لهم ذلك.

تجمع المشركون فيما يزيد عن عشرة آلاف مقاتل، وتحركوا نحو المدينة المنورة، لاستئصال جذوة الإسلام وقتل رسول الله ﷺ، وفق أهدافهم المعلنة، بينما كان رسول الله ﷺ وصحابته الكرام قرابة ثلاثة آلاف مقاتل، يعانون الفقر وقلة العدة والعدد، لكنهم بإيمانهم وبَذلهم لأقصى ما يستطيعون، حفروا خندقاً حول الجهة المكشوفة من المدينة، والتي كانت المفاجأة الأشد وقعاً على المشركين، في خدعة حرب ما عهدوها قبل ذلك! أعد رسول الله ﷺ صحابته إعداداً نفسياً جيداً وبث في قلوبهم الحماسة، وكان يعاني الجوع كما يعانون، بل فوق ما يعانون، ولم يجعل لنفسه مكانة فوقهم لأنهم القائد، بل كان معهم وبينهم لأنه النبي القائد ﷺ، ولو أراد ذلك لما تخلفوا عن أمره قيد أنملة، كلهم له فداء، وكلهم يقدمه على نفسه وولده ووالده والناس أجمعين.

وحانت لحظة اللقاء، التي تنخلع لها القلوب، وتتزلزل لها الجبال؛ جيش عرمرم يهز الأرض طرق خطواته، ويهز معه إيمان ضعفاء النفوس الذين ما عرفوا وعد الله حق المعرفة، وبثوا في النفوس الخوف والرعب، لكن المؤمنين الحق من أصحاب رسول الله ﷺ كان لهم شأن آخر، إذ وصف الله حالهم عند ملاقاة العدو بقوله: “وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا” (الأحزاب: ٢٢)، وهذا القانون الرباني الذي تتأكد إليه حاجتنا في أيام البلاء، وتكالب الأعداء، وهل كنا نظن إلا أنهم يجتمعون على دين الله وعباده؟ فهذا هو الطريق من بعد: إيمان وتسليم، ولا شك أن الإيمان تصديق في القلب وعمل في الجوارح، والتسليم توكل على الله بعد بذل الوسع، والله لا يُخلف وعده لعباده: “وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ، وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ” (الصافات: ١٧١-١٧٣).  

فرج الله كرب أمة محمد ﷺ، وردها إلى جادة الصواب؛ مكر لها لا بها، نصرها لا نصر عليها، أمدها بمدده، وأعزها بجنده، وحقق لها في القريب عزيز وعده.

وكتبه الشيخ جعفر حوى

.

Sign up for our email list!

Sign up to get the monthly Insight E-News, Programs & Events Announcements, as well as Ramadan and Eid information delivered to your inbox.

Accessibility Toolbar