The Prayer Center of Orland Park

وما أدراك ما الوالدين

     لقد خلقنا اللهُ سبحانه لعبادته، وأَوْجدنا في هذه الدنيا لتوحيده وطاعتهِ؛ ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]  وقَرَنَ اللهُ تعالى توحيدَهُ بعملٍ عظيمٍ، وَخُلُقٍ كريمٍ، ألا وهو بِرُّ الوالدينِ، والإحسانُ إلى الأبوينِ، فكما أنَّ اللهَ سبحانه خلقنا وقدَّرَ أرزاقنا، جعلَ الوالدينِ سَبَباً لوجودنا، وَعَوْناً على رزقنا والقيامِ على شؤوننا؛ قال سبحانه: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23]. فَفَضْلُ بِرِّ الوالدينِ عظيمٌ، وتقديمُ الإحسانِ إليهما كبيرٌ، جاء به الأنبياءُ والمرسلون، وحرصَ عليه الأتقياءُ والصَّالحون، فهذا نبيُّ اللهِ نوحٌ عليه السلام يدعُو: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا﴾ [نوح: 28]. وهذا نبيُّ اللهِ يَحْيَى عليه السلام يُثْني عليه ربُّنا فيقولُ: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا﴾ [مريم: 14]. وهذا عيسى ابنُ مريمَ عليه السلام يقولُ: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ [مريم: 32.[

     إِنَّ بِرَّ الوالدينِ من أعظمِ القُرُباتِ عند الله تعالى؛ حتَّى من الجهادِ، الَّذي هو ذِرْوَةُ سَنَامِ الإسلامِ؛ فعن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه قالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ: «أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» [رواه  البخاريُّ ومسلمٌ].

وروى الإمامُ مسلمٌ في صحيحهِ عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي اللهُ عنهما  قالَ: أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: «أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ أَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللَّهِ، قَالَ: فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ. بَلْ كِلاَهُمَا، قَالَ: فَتَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللَّهِ؟، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا».

وفي روايةِ البخاريِّ: «أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟، قَالَ: نَعَمْ: قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ».

وقال رجلٌ لابنِ عبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: «إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَغْزُوَ الرُّومَ، وَإِنَّ أَبَوَيَّ مَنَعَانِي، فَقَالَ: أَطِعْ أَبَوَيْكَ؛ فَإِنَّ الرُّومَ سَتَجِدُ مَنْ يَغْزُوهَا غَيْرَكَ». وهذا من تمام فِقْهِ ابنِ عبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما، وذلكَ أنَّ الجهادَ في سبيلِ اللهِ فرضُ كفايةٍ، إِذا قامَ بهِ البعضُ سقطَ عن الباقين، وبرُّ الوالدين فرضُ عينٍ، وفرضُ العين أقوى من فرضِ الكفاية، إلا إذا كان النَّفيرُ عامّاً، فعند ذلك يكونُ الخروج للجهادِ فرضَ عينٍ، إذ يتعيَّنُ على الجميعِ الدَّفعُ والخروجُ للعدو.

     وإنَّ بِرَّ الوالدينِ يزيدُ للإنسان في عُمُرهِ، ويباركُ له في رزقه؛ فعن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللَّه ﷺ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمُرِهِ، وَأَنْ يُزَادَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» [أخرجهُ أحمدُ] . ومن عِظَمِ حقِّ الوالدين عند الله سبحانه: اسْتِجَابَتُهُ ﷻ لأحدهما إِذا دعا لابنهِ، أو رفع يديه لابنته؛ ففي الحديث قال ﷺ: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ، لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ». [أخرجه أحمد وصحَّحهُ ابنُ حِبَّان]

     وإنَّ بِرَّ الوالدينِ من أسباب قبولِ التَّوبةِ والمغفرة عند الله تعالى؛ فعن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَذْنَبْتُ ذَنْبًا كَبِيرًا، فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَلَكَ وَالِدَانِ؟ »، قَالَ: لَا، قَالَ: «فَلَكَ خَالَةٌ؟»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَبَرَّهَا إِذًا». [أخرجه الترمذيُّ].

     إنَّ بِرَّ الوالدينِ سببٌ من أسبابِ إجابة الدُّعاء؛ فعن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ  يَقُولُ: «يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ كَانَ بِهِ بَرَصٌ، فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].

فهذَا عمرُ الفاروقُ الخليفةُ العادلُ وأميرُ المؤمنينَ يطلب من أُوَيْسٍ التَّابعيِّ أن يستغفرَ له، وما أوصلَ أُوَيْساً إلى هذه المنزلةِ إلَّا بِرُّهُ بأُمِّهِ.

     إِنَّ صورَ البرِّ بالوالدينِ كثيرةٌ، وطُرُقَ الإحسانِ إليهما متنوّعةٌ، وهي تجتمعُ في شيئين: تقديمِ الخير لهما، وكفّ الشَّر عنهما، فمن صُوَرِ البِرِّ بهما: إسعادهما وإِدخالُ السُّرور عليهما، ومدحهُما أو الثَّناءُ عليهما؛ فعن عبدِ الله بنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قال: إِنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: إِنِّي جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الهِجْرَةِ، وَلَقَدْ تَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ! قَالَ: «ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا» [أخرجه النَّسائيُّ].

ومن صور البِرِّ: تقديمُ رضاهما على رضا نفسِهِ وزوجتِهِ وأولادهِ بالمعروفِ؛ فقد روى البخاريُّ في الأدبِ المُفْرَدِ بإسنادٍ حسنٍ عن أبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قال: أَوْصَانِي رَسُولُ اللهِ ﷺ بِتِسْعٍ، وَذَكَرَ مِنْهَا: «وَأَطِعْ وَالِدَيْكَ، وَإِنْ أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ دُنْيَاكَ فَاخْرُجْ لَهُمَا».

ومن صورِ البِرِّ التي لا ننتبهُ لها: إخبارهما بكلِّ ما يسُرُّهُما ويَجْلِبُ الفرحةَ لهما، فإِن لم يكن ذلك فلا تُدْخِلِ الحُزْنَ والضِّيقَ عليهما بإخبارهما بمشاكلكَ أو خلافاتك الزَّوجيَّةِ، أو مشاكلِ عملكَ، فإنَّ ما أهمَّكَ سَيُهِمُّهُمَا، وما أحزنَكَ سَيُحْزِنُهُمَا.

فكما أنَّ الأجر العظيمَ جاء في بِرِّ الوالدين، فكذلك جاء العقابُ الأليمُ في إيذائهما، وإيصالِ الشَّرِّ لهما؛ قال سبحانه: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾ [محمد: 22، 23]، وفي الحديث عن أبي بَكْرَةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله ﷺ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ-ثَلَاثًا-؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ». [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ[

     إنَّ عقوبةَ العُقُوقِ تقعُ في الدنيا قبل الآخرةِ؛ فعن أبي بَكْرٍ رضي الله عنه عن النبيِّ ﷺ قال: «كُلُّ الذُّنُوبِ يُؤَخِّرُ اللَّهُ تَعَالَى مَا شَاءَ مِنْهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ إلَّا عُقُوقَ الوَالِدَيْنِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُعَجِّلُهُ لِصَاحِبِهِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا قَبْلَ المَمَاتِ» [رواه الطَّبرانيُّ في الكبير والحاكم في المُستدرَك].

     وإنَّ صورَ عُقوقِ الوالدين كثيرةٌ، وأنواعَ الإساءةِ إليهما متعدّدةٌ، حمانا اللهُ وإِيَّاكم منها، وهي تجتمعُ في كلّ ما يَسُوؤُهُما، ويَجْلِبُ الحُزْنَ لهما دون وجهِ حقٍّ، ومن ذلك: الكلماتُ البذيئةُ في مخاطبتهما، أو النَّظَرُ بغضبٍ إليهما؛ ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: 23]، أو تركُ الإنفاقِ عليهما مع حاجتهما. وإنَّ من العُقُوقِ لهما اقترافَ المُنْكَرَاتِ أمامهما، وتلويثَ سُمعتهما بالتَّصرُّفات المُحَرَّمة. ومن صور العُقُوق الحديثةِ: الاشتغالُ عنهما عند الجلوس بين أيديهما، ولا سيَّما بالنَّقالِ ومتابعةِ الأخبارِ وهما يكرهان ذلك، فهذا من الإساءةِ وعدمِ الاهتمام بهما.

وفَّقنا اللهُ وإيَّاكم إلى بِرِّ وَالِدِينا، والإحسانِ إليهم أحياءً وأمواتاً.

وكتبه الشيخ مروان عبد الرحمن كصك

.

Sign up for our email list!

Sign up to get the monthly Insight E-News, Programs & Events Announcements, as well as Ramadan and Eid information delivered to your inbox.

Accessibility Toolbar