الحمد لله الذي شرّف البيت الحرام وجعله قيامًا للناس وأمنًا، وجعل الحج إليه فريضة على من استطاع إليه سبيلًا، تُغسل فيه الذنوب، وتُرفع فيه الدعوات، وتتماهى فيه الأرواح، وكلّ هذا في حضرة السكينة والجلال.

نحمده حمد الطائعين الوجلين، ونستعينه استعانة الراجين المُنيبين، ونُلبّيه تلبية المؤمنين المُتّقين:

لبّيك ربّنا إنا إليك راجعون، لبّيك ربّنا إنا على أعتابك واقفون، لبّيك ربّنا إنا بعفوك ورحمتك طامعون.

 

والصلاة والسلام على سيد الخلق، طاف بالبيت ملبّياً، وسعى بين الصفا والمروة خاشعًا، وبكى للقدس حين أُسْري به إليها، وبات يرقى إلى أن نال منزلة، من قاب قوسَيْن لم تًدْرَك ولم تُرَمِ.

في مواسم الطّهر، حين تتوشّح القلوب ببياض النية، وتغسل الأرواح أدرانَها تحت أمطار الرحمة المتنزّلة من السماء، يعلو في مكة صوت التكبير، وتخشع الوجوه لنور الجلال، وتلبي الجموع نداء الخليل: “لبيك اللهم لبيك، لبّيك اللهم حُبّاً، لبّيك اللهم طاعةً، لبّيك اللهم دوماً”. ولكن… في طيّات هذا النداء الطاهر، تسكن شهقة مكتومة لقومٍ يجبلون الدمع بالدم، والحياة مع الموت، وتخرج بكبريائها المعهود أنّة نازفة لغزّة، ودمعة تنحدر باسم القدس وأقصاها فترسم حال الأمّة من أقصاها إلى أقصاها.

 

يوماً بعد يوم، تتوالى الجِراح وراء الجراح، لا يغيب شهيدٌ عن صعيد عرفات، ولا تُنسى مجزرة عن مشعر منى. في كل دعاءٍ يُرفع، روح شهيدٍ تحضر. وفي كل خطوةٍ يخطوها الحاج نحو البيت العتيق، ذكرى طفلٍ شهيد تتبع أثره، كأنّها تقول له: “إن عجزتم عن القدوم إلينا، فاذكرونا بدعائكم عند بيت ربكم، فالدعاء جسر لا يقدر العدو عليه”.

 

والحج ليس انتقالًا بالجسد من مكانٍ إلى آخر، بل هو ارتحالٌ للروح في دروب التوبة والتجلّي، وانعتاقٌ من ضيق الدنيا إلى فسحة المطلق. وفي هذا المقام الرفيع، تُبعث في النفس نداءات الغائبين: أولئك الذين صلّوا ذات فجرٍ واستشهدوا، الذين قضوا ذات يومٍ عظيم تحت الأنقاض وما عرفوا غير “الله أكبر” آخرَ زفرةٍ لهم قبل لقاء العظيم الكبير.

وليس الحاج اليوم حاجًّا عن نفسه وحده، بل هو حاملٌ لأوجاع أمّته، متحدثٌ باسم الصامدين تحت الحصار، ورسول أولئك الذين حُرموا الطواف حول الكعبة،  لكنهم يطوفون بأرواحهم بين جنبات الأرض والسماء ويرابطون على تخوم المِعراج، بقلوبٍ مطهّرة من كل زيف، مشبعةٍ بالإيمان، مدثّرةٍ بالصبر المقدّس.

عجبًا، كيف تلتقي الدماء المطهّرة بماء زمزم! ذاك نبع تفجّر تحت قدمي إسماعيل عليه السلام، وهذا دم غَمَرَ الأقدام، ومجراهما يروي قصة الفداء في سبيل من وضع في الجسد الدماء وأحياه بالماء. وإذا كانت الكعبة مهوى القلوب، فإنّ فلسطين مهوى الهمم والضمائر. وما بين الاثنين، شعرة من نور، لو انقطعت، خفت وهج الأمة وذبلت عروق كرامتها.

في مِنى، حيث يُرمى الشيطان، يعلو صوت الحجاج برفض كل باطل، ومنه باطل المُحتل وشيطانيّته. وفي عرفة، حيث تُستجاب الدعوات وتُغفر الزلات، ترتفع الأكفّ بالدعاء: “اللهم إن لنا إخوانًا لا يستطيعون الوصول إلى بيتك جسداً، لكنّهم لبّوا نداءك روحاً، اللهم إنّهم يفدونك بعظيم ما عندهم، فاجعل ناراً يُضرَبون بها برداً وسلاماً عليهم، وثبّت أقدامهم وانصرهم على القوم الظالمين”.

 

إن همّ الأمة في الحج ليس طارئاً عابراً، بل هي في أصل الشعور، ولبّ النية، وجوهر التوجّه. إنّها البوصلة، إن ضاعت، ضاع الحج عن معناه الأسمى، وبهتت الرسالة. فالطواف بلا همّ الأمة دورانٌ أجوف، والسعي بلا نُصرةٍ للمظلومين هرولةٌ في هواءٍ خاوٍ.

إن الحاج حين يلبّي، فهو يلبّي عن الشهيد المحاصر، عن الأم التي دفنت أبناءها بيديها، عن الشيخ الذي قُيّد في بيته، عن الأسير الذي يصوم بلا تمر، ويفطر على بصيص الأمل، عن الطفل الذي صار رجلاً فلا يعرف معنى الطفولة، عن المقاوم الذي قطّب جسده كما قطّب حاجبَيه، عن الزوجة التي فقدت حبيبها من أجل عشقٍ أكبر اسمه الأرض والوطن، هو يلبّي عن جراحٍ لم تندمل، وعن مدنٍ تُقصف في النهار وتبكي في الليل.

أيها الحاج، إن سجدت في الحرم، فلا تنس أن تسجد روحك في أقصى القدس. وإن شربت من زمزم، فتذكّر أنّ في الأرض النازفة أطفالًا يشربون من ماء مالحٍ ممزوجٍ بالدموع. وإن بكيت من خشية الله، فابكِ لأجل أمةٍ ما عادت تُبكيها المجازر، بل تواطؤ الصامتين المتخاذلين.

 

ويا شهيد الله، إن حُرمت من السجود عند الكعبة، فاعلم أن دمك الطاهر قد طاف أركانها، وحلّ في أفئدة الحجاج، يُناديهم كل عام: أقيموا دين الله، فإن الحق لا يُسترد إلا إذا وُجد من يتقن حمل الأمانة.

فلتُكتب هذه اللحظة، ولتُسجّلها السماء: الحج ليس عبادة جسد فقط، بل إعلان ولاءٍ للحق، وتجديد بيعةٍ لرب المسرى، وترسيخًا لمعنى التآخي الذي لا تفصله حدود، ولا تقطعه سياسات وبنود.

الحاج هذا العام ليس سائرًا نحو مكة فقط، بل هو عائدٌ إلى ذاته، مستنفرٌ لإيمانه، شاهِدٌ على دمعة طفلٍ، وعلى صبر أم، وعلى أمل لا يموت، ونصرٍ مبين، والموعد الصبح، ألا إنّ الصبح قريب…

 

بلال شرف الدين

About The Author

Imam Kifah Mustapha

Accessibility Toolbar