رُوي عن زِر بن حُبيْش، قالَ: أَتَيتُ صفوانَ بن عسَّال المُرادي، فقال: ما جاء بك؟ فقلت ابتِغَاء العلم، قال: “فإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ” (سنن الترمذي)، فهنيئاً لأبنائنا وبناتنا عودتهم للمدارس من جديد، فقد عادوا إلى طلب العلم، وهل يسمو المرء ويعلو إلا بالعلم؟ فقد صدقوا يوم أنشدوا: العلم يبني بيوتاً لا عِماد لها، والجهل يهدم بيت العزِّ والكرم.
يبدأ أبناؤنا عاماً جديداً في رحلتهم في طلب العلم، والتي ما هي إلا رحلتهم إلى الجنة إن هم أخلصوا النية لله وصبروا في طلبهم للعلم، كما جاء في صحيح مسلم في الحديث المعروف: “من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة”، فعلم الدنيا يغدو عِلم الدين إذا خلُصت النية فيه لله، فينوي الطالب خدمة دينه ومجتمعه وإخوانه؛ فينال أعلى الدرجات بصفاء نيته وإن درس من العلوم أبعدَ ما يكون عن علم الشريعة، فلا يقال أن من يتعلم العلم الشرعي هو فقط من يحوز الفضل والأجر، بل كما هي حاجة الأمة لمن يرسم لها معالم دينها بوضوح، هي بحاجة إلى من يرفع قدرها بين الأمم في الكثير من العلوم ويحفظ لها مكانة في علوم الدنيا؛ فلا تحتاج غير أبنائها ولا يتحكم أعداؤها بها، وهذا أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن الذي قال في كتابه: ” قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ” (الزمر: 9)؟ أليس الله؟ ومن الذي حثَّ الصحابة على أن يدرسوا لغات وعلوم الأمم الأخرى؟ أليس رسول الله؟.
ومما يُنقل من القصص وفيه الفائدة، قصة الإمام أبي حامد الغزالي، الذي نشأ في أسرة فقيرة الحال، إذ كان أباه يعمل في غزل الصوف، ولم يكن له أبناء غير أبي حامد، وأخيه أحمد والذي كان يصغره سنّاً، كان أبوه مائلاً للصوفية، لا يأكل إلا من كسب يده، وكان يحضر مجالس الفقهاء ويجالسهم، ويقوم على خدمتهم، وينفق بما أمكنه إنفاقه، وكان كثيراً يدعو الله أن يرزقه ابناً ويجعله فقيهاً، فكان ابنه أبو حامد، وكان ابنه أحمد واعظاً مؤثراً في الناس. ولما قربت وفاة أبيهما، وصّى بهما صديقاً له، وقال له: “إِن لي لتأسفاً عظيماً على تعلم الخط وأشتهي استدراك ما فاتني في وَلَديّ هذَيْن، فعلّمهما ولا عليك أن تنفذ في ذلك جميع ما أخلّفه لهما”، فلما مات أقبل الصديق على تعليمهما حتى نفد ما خلّفه لهما أبوهما من الأموال، ولم يستطع الصديق الإنفاق عليهما، عند ذلك قال لهما: “اعلما أنّي قد أنفقت عليكما ما كان لكما وأنا رجل من الفقر والتجريد بحيث لا مال لي فأواسيكما به، وأصلَحُ ما أرى لَكمَا أن تلجئا إِلَى مدرسة كأنكما من طلبة العلم فَيحصل لَكمَا قوتٌ يعينكما على وقتكما”، ففعلا ذلك، وأقاما بواحدة من المدارس، يأكلان ويشربان ويتعلمان، ثم تتغير أحوالهما، وتعلو درجتهما بفضل العلم الذي تعلماه من هذا المكان من غير قصد منهما ولا إرادة غير العيش والإفادة مما يصرف للطالب من تلك المدارس. وكان الغزاليّ يَحكي هذا ويقُول: “طلبنا الْعلم لغير الله فأبى أن يكون إِلّا لله”، وكأنه يقصد كيف أن العلم وحده يقودك إلى الله، فتعرف به ربك، وإذا ما عرفت ربك قصدته وأخلصت في طلب مرضاته، والحق أن لا خير في علم لا يدُلُك على الله، والله مبعثُ كل علم، وهو العليم يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يغفل عن الله في رحلته في طلب العلم فهو الغافل اللاهي الخاسر لا محالة.
فيا أيها الطلاب، أخلصوا نياتكم، واجعلوا علمكم زادكم نحو الجنة. ويا أيها الآباء، ذكروا أبناءكم بقصص الأولين ممن بزغ نجمهم ولمعوا في سماء العلم حتى يرغبوا بمثل ما رغبوا، ويلمعوا بمثل ما لمعوا، ساندوهم وكونوا شركاء نجاحهم في سبيل العلم والمعرفة؛ فمن جدَّ وَجَدْ، ومن سار على الدرب وصل.
By Sh Jafar Hawa